شعار قسم مدونات

الأرض كلها فندق وبيتي القُدس

blogs - فلسطين

"الأرضُ كلها فُندق وبيتي القُدس"، حينما قالها "إدوارد سعيد" كان يمثلُني تمامًا، كان يعرف أنني سآتي من رحمِ أُمي مُقبلًة على مكانٍ مُقدّس يزرعُ في نفسي حُبًا لا يشبهُ أي حبٍ آخر. عندما كُنت صغيرة، كنت أمّرُ في حاراتها جميعا ممسكةً بيد أبي، أمشي في ساحات الأقصى حيث كانت وجبتي الصباحية المرور من خلاله، في الصيف أختبئ تحت شجرة زيتونٍ كبيرة تظلّني بظلها، في الشتاء أحتمي بدفء المكان العامر رُغم قسوة بردِه.

عندما كبرتُ قليلًا، صارّ الناس يسألونني عن القُدس، حاراتها، أزقتّها فاكتشفتُ بأنني لا أعرف عنها مثلما أُريد لكنني كنت متأكدة من أن هذه الشوارع تحفظ اسمي جيدًا على عكسي، ومن هُنا بدأتُ أنا أُحب القُدس أكثر من خلال معرفتي عنها ليس عيشي فيها فقط.

في كل يومٍ أسيرُ في منطقةٍ ما، أكتشف جمالًا آخر لم أكن قد اكتشفته من قبل قّط، أُسلّم عليها بعينيّ وترمشُ لي بجرحها النازف، تُربّت على كتفي,

حفظتُ أسماء الشوارع، أسماء القِباب، عرفتُ مكان كنيسة القيامة والجثمانية، أسماء أبواب الأقصى والقُدس، أسماء المحلّات وأصحابها وكنياتهم، أسماء أفران الكعك الذي يعتبر معلمًا من معالمها، أسماء مدارسها، قلعاتها، بناياتها، العصور التي مرّت بها، التغيّر التاريخي الذي طرأ على تهويد أسمائها، تغيّر قنوات الحُب فيها ذاك الذي ينبعُ من معرفتها فقط !

حفظتُ كل الوجوه التي ألتقيها، صوت فيروز الذي يغنّي باب دمشق يُتحفنا بصباحٍ مُختلف، رائحة الكعك والزعتر التي لا تشبهُ أي رائحةٍ إلا نفسها، رائحة أقراص اللحمة تلك التي يطلبها أصحاب المحلات كفطور في ما إذا ملّوا من الكعك، هم فعلًا لا يملّون منه يأكلونها كوجبةٍ إضافية، وجود الكعك مُقدّس كما الشاي والقهوة عندما تفتح المحلات أبوابها ترى فيها ما يحلو لك!

في مرحلتي الجامعية، كان الكثير من أصدقائي الذين لم تحظَ بهم الفرصة ليأتوا لزيارة القدس إما بسبب منعٍ أمني وإما تعاقب الأوضاع السياسية وتطورّها أو حتى تلك التشديدات التي تصل بجنود الاحتلال بالاستفراد بالشباب صغار السن من منعهم الوصول للقُدس دون مبررٍ إلا بسبب مزاجهِ هذا اليوم، كانوا يسألونني عنها، عن صفاتها، يطلبون مني صورًا لحاراتها القديمة التي تغنّى الجميعُ بِها، يطلبون مني صورا لأسمائهم في أي رحابٍ فيها علّها تكون ضربة حظٍ جديدة تُشبع رغبتهم في أن يصلوا لها يومًا ما بأملٍ جديد، بقلبٍ لن يبعد عنها أبدًا!

سكنتُ بعيدًا عنها في تلك المرحلة ولم يكن يُنعشني شيئًا إلاّ هواءها العليل، لحظة وصولي للقدس تُردّ لي روحي، سافرتُ أيضًا ورأيتُ أنّ القُدس بيتي، وطني الذي يتجذّر في أعماقي، قلبي الذي يُنزع مني في لحظة غُربة مهما كنت أحاول تجميل الغربةِ في عينيّ كان جمال القبة الذهبية، المسجد القبلي بقبتّه أيضًا يُرجعانني إلى القُدس.

كانوا يسألونني عنها، عن صفاتها، يطلبون مني صورًا لحاراتها القديمة التي تغنّى الجميعُ بِها، يطلبون مني صورا لأسمائهم في أي رحابٍ فيها.

سكنتُ بعيدًأ ورأيت رمضانًا مختلفًا، لا يأُمه صوت الشيوخ الذي أُحب، ولا رهبة الشهرّ المقرب إلى قلبي، ولم أجد إفطارًا أشهى من إفطاري فيها حتى لو انتهى بيّ الأمرُ في كسرة خبزٍ وتمرة، كنت أجدُ الذين يحبونها يأتون إليها تباعًا، كل جمعة، وأنا أزورها كل ليلة، أمشي في شوارعها كل صباحٍ ومساء بلا كللٍ ولا ملل.

في كل يومٍ أسيرُ في منطقةٍ ما، أكتشف جمالًا آخر لم أكن قد اكتشفته من قبل قّط، أُسلّم عليها بعينيّ وترمشُ لي بجرحها النازف، تُربّت على كتفي مهما دارت بيّ الأيام، مهما فعلت، مهما ركضت، مهما عاشرت، مهما رأيتُ من مواقف وتبدّلت ارائي حتى صقلتها الأيام .. تبقى القُدس وحدّها في نظري مُجرّدًة من أيّ تردد، تبقى القُدس بيتي وأنا من دونها في ملجأ لن يحتملني أبدًأ!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.