شعار قسم مدونات

حديث في "الإيجابية"

blogs - سعادة
الحديث عن الإيجابيّة ملمح أساسيّ من ملامح أي خطاب تحفيزيّ مهما كان سياقُه. الإيجابيّة تقترنُ عادةً بسماتٍ محمودة تردُ معها وترتبطُ بها، من قبيل التّفاؤل، والنّظر للجانب المشرق من الأمور، والفعاليّة، وغيرِها. لعلّنا لا نبالغ لو قلنا إنّ الحرصَ على الإيجابيّة سمةٌ من سمات هذا العصر، ويسندُ ذلك انتشارُها المُريع في الخطابات المختلفة، واعتبارُها شرطا ضروريّا للنّجاح والاستمرار. فمن أين أتت كلُّ هذه الإيجابيّة؟ وهل هي قوّة دافعة بالفعل؟ وهل هي بتلك الأهمّية المزعومة؟

المبدأ المحمود، والسياق المغلوط:
من حيث المبدأ، فالإيجابيّة أمرٌ حسن، تدعو إليه الشّرائع ويُقرُّ أفضليّتَه البحث العلميّ. فنبيّ الإسلام حضَّ على القول الحسن والفأل الحسن، وكان يستحبُّ من الأسماء ما يوحي بالخير واليُسر واللين. ويخبرُنا البحثُ النّفسيّ أن المرء أكثرُ عرضةً للأمراض النفسيّة، بل حتّى الجسميّة، كلما مالت طباعُ شخصيّتِه إلى الاستجابة العاطفيّة السلبيّة لأحداثِ الحياة ومتغيّراتِها، وأنّ من تصطبغُ شخصيّتُه بهذه الاستجابة السلبيّة، أو ما يُسمّى في علم النفس "Neuroticism"، يزداد احتمالُ معاناتِه للقلق والتوتّر والإحباط وآلام الفقدان والحرمان.

بالتّالي، فالإيجابيّة مطلبٌ محمودٌ، والبحثُ عنها ومحاولةُ التحلّي بها أمرٌ مرغوب، لكنّ مفهوم الإيجابيّة أُخرِجَ من سياقِه الطبيعيّ المتّزِن إلى سياقات أخرى ملتبِسة، بل مشوَّهة أحيانا.

إذا كانت مشكلة المريض النفسيّ أنّه لا يقدّر قيمةَ ذاتِه وإمكانيّاتِها وقدراتِها، فالمتوقّعُ أنّ المعالجَ سيحاولُ أن يزيدَ من تقديره لذاتِه وشعوره بقيمةِ نفسِه، وبالتّالي استخدام خطابٍ تحفيزيّ وإيجابيّ لمواجهة نزوعِه السلبيّ.

علم النفس والطبّ النفسي، من هنا البداية:
كما قلنا، فعلم النفس يُحدّدُ الميل النفسيّ نحو السلبيّة -أي نقيض الإيجابيّة- باعتباره عاملا مرتبِطا بالاضطرابات النفسيّة من اكتئابٍ وقلق وغيرهما، ولذا فمن الطبيعيّ أن تكونَ هذه السلبيّة هدَفاً للعلاج النفسيّ.

وفضلاً عن كونِ السلبيّة بيئة خصبة للاضطرابات النفسيّة، فهي تزدادُ سوءا إذا وقع الاضطرابُ النفسيّ، فمن المعروف أنّ المصاب بالاكتئاب أو القلق يميلُ إلى رؤية الوجود بسوداويّة وقتامة، فقد يرى أنّ الوجود برمّتِه سيّئٌ ومخيفٌ وغيرُ متوقَّع، وقد يرى أنّ البشر سيّئون أو أشرار عموما ويعجزُ عن رؤية الخير فيهم حتّى المقرّبين منه، وقد يرى نفسَه ضعيفا أو بلا قيمة أو غير محبوبٍ من أحد، وما إلى ذلك.

لذا، يقومُ العلاج النفسيّ لهذه الاضطرابات على محاولة تصحيح هذه النظرة السلبيّة للوجود والغير والنّفس، وذلك بمساعدة الشّخص على اختبار قناعاتِه بهذا الخصوص، فالمكتئبُ مثلا قد يقتنعُ تماما بأنّه غير محبوب، فإذا ساعده المعالج على اختبار هذه الفكرة، كثيرا ما يتبيّنُ له أنّه محبوب من كثيرين، وأنّ هناك من يقدّرُه ويحرصُ على مصلحتِه ويهمُّه أمرُه، فإذا تعدّلت هذه القناعات السلبيّة، تحسّن المرء وخفّت حدّه اضطرابِه.

لكن مع أنّ محاربة السلبيّة وترسيخَ الإيجابية من مرتكَزات العلاج النفسيّ، إلا أنّ هذه المفاهيم يُساءُ فهمُها وتوظيفُها خارجَ سياق العلاج النفسيّ، بل داخلَه أحيانا، ويؤول بها المطافُ إلى أن تُستخدَمَ لأغراضٍ مخالفةٍ تماما، بل مناقضة أحيانا، للهدف الأساسيّ منها، وإلى هذا نُديرُ دفّة الحديث.

هل يروّج العلاجُ النفسيّ لصورة ورديّة عن النّفسِ والوجود؟
يتوهّمُ كثيرون أنّ العلاج النفسيّ حالةٌ من التواطؤ الكامل مع المُعالَج، وأنّ دورَ المعالِجَ هو نوعٍ من "الطبطبة" والمديح للمعالَج من أجل رفع معنويّاتِه وتحسين نفسيّتِه. هناك سياقٌ مفهوم لنشوء هذا الظنّ الخاطئ، فإذا كانت مشكلة المريض النفسيّ أنّه لا يقدّر قيمةَ ذاتِه وإمكانيّاتِها وقدراتِها، فالمتوقّعُ أنّ المعالجَ سيحاولُ أن يزيدَ من تقديره لذاتِه وشعوره بقيمةِ نفسِه، وبالتّالي استخدام خطابٍ تحفيزيّ وإيجابيّ لمواجهة نزوعِه السلبيّ.

لكنّ هذا التصوّرَ مخالفٌ للصّواب. صحيحٌ أنَّ الهدف هو امتلاكُ المرء لرؤي متوازنة للوجود ولنفسِه وللآخرين، لكنّ هذا لا يُنالُ بالتّواطؤ والاسترضاء والطبطبة، بل كثيرا ما يتطلبُ ذلك مواجهةً محسوبَةً مع المعالَج، وتعريةَ دفاعاتِه وحيلِه النفسيّة، وكشفَ أنماط اعتقادِه وسلوكه التي تجعلُه يُسيءُ تقديرَ نفسِه ويعجزُ عن رؤية الأشياء بمنظار متّزن سويّ.

بالتّالي فالأمرُ أبعدُ ما يكونُ عن خطابٍ تحفيزيّ سطحيّ أو مديحٍ ساذج أو تصويرٍ حالم للوجود على أنّه سيمفونيّةٌ من الجمال و للآخرين على أنّهم أخيارٌ بالضّرورة لولا بعضُ القضايا العرضيّة التي تجعلُهُم سيئين أو أشرارا، بل الأمر عمليّة شاقّة ومضنية يتخلّلُها كثير من المواجهة والصّدام والاكتشافات المزعجة عن النفس أو الوجود أو الآخرين، وكثيرا ما يزدادُ القلق والتوتّر مؤقّتا أثناءَها قبل أن تؤتيَ نتائجَها الإيجابيّة.

وهناك أمرٌ آخرُ في غاية الأهمّية، هو أنّ العلاجَ النفسيّ موجَّهٌ لأشخاصٍ يعيشونَ معاناةً استثنائيّة تحولَ بينهم وبين الحياة السويّة المنتِجة، وكثيراً ما تصلُ بهم المعاناة إلى درجة من السوداويّة لا يستقيمُ معها الحدُّ الأدنى من حياةٍ ذاتِ معنى. هؤلاء سيكونُ من النّجاح البالغ أن نُعينَهُم على استعادة نظرة سويّة للحياة، ورؤية شيء من قيمة أنفسهم ومن خير الآخرين ومن الجمال في الوجود، ولا يُتوقَّعُ أن يصلَ الأمر معهم بحالٍ إلى نظرةٍ ورديّة حالمة حسبَ ما يُروَّج ل"الإيجابيّة" من معنى.

بإمكانك أن تؤمنَ أنّ السعيَ الفرديّ أكثرُ نجاعةً من السعي الجماعيّ، وأنّ تساوي الفرص وحريةَ الاختيار لا بدّ أن تنتج ناجحين وفاشلين، وأنّ الحكومة لا يمكن أن تجعلَ جميعَ الفاشلين ناجحين مهما حاولت.

من عيادة الطبيب النّفسيّ إلى الشّارع:
في كتابه "Comfortably Numb" يحدّدُ السوسيولوجيّ الأمريكي تشارلز باربر نهاية الثمانينيّات وبداية التسعينيّات في الولايات المتّحدة باعتبارها بداية زمنٍ جديد، زمنٍ أرادت فيه الولايات المتّحدة أن تتجاوزَ إرثَ العقدَين السابقين. في الستينيّات والسبعينيّات، كان هنالك إقبالٌ واسعٍ على القضايا العامّة، من قبيل النضال الحقوقيّ والمدنيّ ضدّ حرب فيتنام ولصالح الحقوق المدنيّة للأقليّات العرقيّة والجنسيّة وحقوقِ المرأة. لكن في الوقت نفسِه، كانَ هنالك يأسٌ من مؤسّسات المجتمع والدّولة والقيم السّائدة والتقاليد، ولذا ظهرت حركات الهبّيّين وشاع استخدام المخدّرات من المهلوسات إلى الماريغوانا إلى الكوكايين.

مع رئاسة رونالد ريغان في الثمانينيّات، بدأ تحوّلٌ كبيرٌ وملحوظ نحو قيمِ الإنجاز والفعاليّة الفرديّة، أو ما يصفه باربر بحالة من "الصّحوة" من تيه العقدين السابقَين، وكذلك اليأس من حلولٍ اجتماعيّة عامّة، فدولة الرّفاه التي تضمن حدّا أدنى من الحياة الكريمة والعلاج والتعليم كانت قد لفظت أنفاسَها، وبات على الجيل الجديد أن يجدَ حلولا فرديّة لمشكلاتِه.

ربما يتذكّر القارئ طوفانَ "التنمية البشريّة" الذي انفجر في المنطقة العربية في نهاية التسعينيّات وبداية الألفيّة الجديدة. أصبح مدرّبو التنمية البشريّة رموزا ومشاهير تضيقُ القاعات عن استيعابِ جمهورِهم، وتمتلئ القنوات الفضائيّة بأحاديثِهم، وتجلسُ كتبُهم مطمئنّة في واجهات المكتبات ورفّ الأكثر مبيعا.

وكما في الولايات المتّحدة، كان الوقتُ ملائماً جدّا لهذه الحالة في السياق العربيّ، إذ شكّلت حربُ الخليج الثانية صدمةً كبرى لم يخرج العربُ من توابعِها إلى اللحظة، كما أنّ السلام مع إسرائيل بدا أقربَ من أيّ وقتٍ مضى، وكان انهيارُ الاتّحاد السوفييتي لحظة فارقة في مسيرة تحوّل كثير من اليساريّين العرب إلى ليبيراليّين، فيما وصل الإسلاميّون إلى مرحلة غير مسبوقةٍ من الركود والإنهاك. بالتّالي، كان البحثُ عن حلولٍ فرديّة، ورؤى ذاتِ طابعٍ إداريّ غير مؤدلَج، أمرا متوقَّعا في هذا السّياق.

بالتّالي، لم تعدِ الإيجابيّة شيئا ينبغي أن يستعيدَه المُصابُ بالاكتئاب أو القلق، بل أصبحت موقفاً عامّا من الوجود. إذا لم يكن بإمكانِنا حلُّ مشكلات المجتمع، فبإمكانِنا العمل على مشكلاتِنا الخاصّة. أما مشكلاتُنا الخاصّة فسببُها أساسا رؤيةٌ خاطئةٌ للوجود، لا ظروفٌ موضوعيّة في الواقِع. النّجاح يتطلّبُ استعداداً ذهنيّا بالدرجة الأولى، أو ما يُسمّى "State of Mind" وبعدَها فكلُّ العقبات قابلةٌ للتذليل. من هنا تتناسلُ قصصُ النّجاح الفرديّ، والأشخاصِ الذين قهروا ظروفَهم الصّعبة واستطاعوا الوصول إلى القمّة رغمَ التحدّيات ورغمَ تثبيطاتِ المثبّطين.

الإيجابيّة كنقيض للسياسة:
قد يستنتج القارئ إذن أنّ الإيجابيّة اختراعٌ رأسماليّ ليبيراليّ، فهي حالة فردانيّة تجعلُ من النّجاح الفرديّ هدفَها ومقياسَها، وهي مفهومٌ يجعلُ النّجاحَ قائما على مجهود الفرد الذّاتي واجتهادِه الخاصّ، لا على خطط الحكومة وبرامجِها ومشروعات المجتمع العامّة، وهي حالة من الإعراض عن البحثِ عن حلول اجتماعيّة عامّة على مستوى المجتمع لصالحِ البحث عن حلولٍ فرديّة، وهذه كلُّها سماتٌ معروفة للرؤية الرأسماليّة الليبيراليّة.

لكنّ هذا الاستنتاج ناقصٌ جدّا
من الصحيحِ تماما أنّ الإيجابيّة ترتبط برؤية فردانيّة يُشجّعُها التوجُّه الرأسماليّ الليبيراليّ، لكنّ تبنّي هذه الرؤية في الغرب هو اتّخاذٌ مشروعٌ لموقفٍ ممكن في مجتمعٍ ديموقراطيّ. هذا الموقفُ لا يخلو من وجاهة ولا يخلو كذلك من انتقادات. بإمكانك أن تؤمنَ أنّ السعيَ الفرديّ أكثرُ نجاعةً من السعي الجماعيّ، وأنّ تساوي الفرص وحريةَ الاختيار لا بدّ أن تنتج ناجحين وفاشلين، وأنّ الحكومة لا يمكن أن تجعلَ جميعَ الفاشلين ناجحين مهما حاولت، وأنّ غيابَ الحوافز التي يحصلُ عليها الناجح سيجعل الجميع يركنون إلى الدعة والاسترخاء ويُحجمون عن الاجتهاد.

هذا كلّه له وجاهةٌ في مجتمع تتوفّر فيه بالفعل فرصٌ متساوية، وتتوفّر فيه فرصةُ النّضال الديموقراطيّ إذا لم توجد فرصٌ متساوية وإذا كان هنالك محاباة لفئة على حساب فئاتٍ أخرى، وتتوفّر فيه حكومةٌ منتخبة ديموقراطيّا ويتساوى فيه النّاس أمام القانون.

النجاحات الفرديّة غير المتكرّرة تُعفي الدولة من مسؤولية جعلِ النّجاح عملية عقلانيّة رشيدة مخطّطة يمكنُ أن تستوعبَ مجملَ الأفراد الذين سيتفوّقُ بعضهم ولا شكّ، إلى جعلِ النّجاح أمرا يقومُ على الاستثنائيّة الفرديّة، فتُعفى مؤسّساتُ الدولة ومخطّطوها من تهمة الفشل.

لكن في مجتمعات لا يمكن أن تقومَ فيها بمشروعٍ من دون رشوة طابور طويل من المسؤولين، ويمكنُ فيها للمتنفّذين أن يعيقوك ويسحقوك دونَ أن تتمكّن من قول رأيك بحريّة، ولا يوجدُ فيها قضاء نزيهٌ يمكن الاحتكامُ إليه، ولا يوجدُ فيها أيٌّ شكلٍ من انتخابِ المسؤولين.. في مجتمعات كهذه، يُصبحُ الحديثُ عن الإيجابيّة ضرباً من الخداع، وحتّى التواطؤ أحياناً.

الإيجابيّة في مجتمعاتٍ كهذه تعني ألا تعبَأ بالمظلومين والمحرومين الذين لا تتوفّر لهم فرصُ تحسين حياتِهم مهما حاولوا، فهم محرومون من حريّة التعبير عن أنفسهم، ومن تثقيفِ أنفسِهم وتوسيعِ مداركهم، ومن الحصولِ على تعليمٍ محترَم، ومن خوضٍ منافسةٍ نزيهة في طريقهم للترقّي الاجتماعي والمادّي. وفوقَ ذلك، تعني الإيجابيّة في هذا السّياق ألا تعبأ بالسلطة الغاشمة التي تحرمُ هؤلاء من ذلك كلِّه.

لا تغفلُ الأنظمة المستبدّة عن الخدمة التي يُسديها لهم هذا النوع من "الإيجابيّة"، فهناك احتفاءٌ إعلاميٌّ واسعٌ بشابّ بدأ يبيع العصيرَ في الشّارع ثمّ امتلك محلا ناجحا، أو فتاةٍ تتّخذُ مهنةً يُستهجَن عادةً أن تقومَ بها فتاة. تحتفي الأنظمةُ المستبدّة كذلك بالعمل التطوّعي أو الخيريّ غير المسيّس، على طريقة "إيقاد شمعة بدلا من لعن الظّلام"، أو لعن النّظام بالأحرى. ويتجاوزُ الأمر ذلك إلى اختراعٍ قصص نجاح واضحة الاعتباطيّة أو الاستثنائيّة على أقل تقدير، مثل فوزِ طفلٍ موهوب بجائزة عالميّة في الريّاضيّات، فهذه النجاحات الفرديّة غير المتكرّرة تُعفي الدولة من مسؤولية جعلِ النّجاح عملية عقلانيّة رشيدة مخطّطة يمكنُ أن تستوعبَ مجملَ الأفراد الذين سيتفوّقُ بعضهم ولا شكّ، إلى جعلِ النّجاح أمرا يقومُ على الاستثنائيّة الفرديّة، فتُعفى مؤسّساتُ الدولة ومخطّطوها من تهمة الفشل، وتُبقى التّهمة على المجموع، أي على الأكثريّة التي تفتقرُ إلى "الإيجابيّة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.