شعار قسم مدونات

السعادة ليست شيئاً

blogs السعادة

أشياء كثيرة نمر عليها دون أن نتوقف عندها، ندركها دون أن نستوعبها ونتصور ماهيتها دون أن نقو على تبصرها؛ أشياء كثيرة كالسعادة، ترتبط بما لا نراه وتنعكس فيما يظهر أمام أعيننا، أعمق من أن نفصح عنها وأكبر من أن نتجاهلها، يصعب علينا اختزالها في كلمات واضحة مقتضبة ويستعصي تلخيصها باكتمال مهما فضفضناها.. لربما لأن أشياء كهذه وجدت لكي نستشعرها فقط وليس لنفهمها، خلقت لتعطي معنى للحياة دون حاجة إلى ما يفسرها، تتشكل لكل منا على هيئة خاصة لا يراها غيره، وأنها هنا وكفى، وليس مفترضا أن ننمذجها.

السعادة إذن حرة، لكننا قيدناها فلم نعد نعرف غير صورها النمطية المشتركة، ضخمناها بشكل مهول حتى ما عدنا نفطن لهيئاتها الصغيرة، ربطناها بعناصر معينة استهلكنا منها حتى استنزفناها وما عدنا نتذوق حلاوتها بحق، كيفناها مع وتيرة هرولتنا المستمرة فعدونا بدلا من أن ننتشي بها ببطيء.

فالسعادة هادئة، لكننا ألصقناها بالصخب والسرعة فلم نعتد أن نستلذ بها في سكون ولا أن نأكلها على مهل، ربطناها بما هو عال وبعيد حتى اقتنعنا بكونها كذلك ورحنا ننصرف إليها عبثا أو عنها استسلاما، علقناها بالتمرد ولم نتصورها قرينة لأنواع من الخضوع.

إن السعادة إيمان، تصديق تام ما وجب أن يشوبه شك واعتقاد صاف لا تعكره المتغيرات مهما تقلبت؛ تمرين مقدس حتى في أتفه تجلياته وعبادة لا تتماشى والجحود والإنكار

السعادة بسيطة، أي نعم، لكننا نعقدها؛ أخضعناها لمنطق الربح والخسارة، تعاملنا معها كمعادلة صعبة في حين أنها حل في حد ذاتها، أحبطنا باحثين عنها حولنا دون أن نفتش دواخلنا، تهنا سائلين أين نجدها بدل بذل مجهود أكبر لنخلقها، تعقدنا نحن، فتعقدت هي، ونحن البسطاء وهي البسيطة.

لكن البساطة صعبة، والسعادة كذلك؛ عسيرة هي وعنيدة في حين ظنناها تمتثل لأوامر البعض وتنقاد خلف إمكاناتهم، صورناها هدفا وهي الوسيلة والغاية، قزمنا تأثيرنا عليها وتأثيرها علينا فاستسهلناها واستسهلنا أنفسنا وما أدركناها حقيقة، استهترنا ببعض أركانها فصرنا عاجزين عن تحصيلها حتى كفرنا بها.

إن السعادة إيمان، تصديق تام ما وجب أن يشوبه شك واعتقاد صاف لا تعكره المتغيرات مهما تقلبت؛ تمرين مقدس حتى في أتفه تجلياته وعبادة لا تتماشى والجحود والإنكار؛ تعبد هي واعتكاف متواصل مستحب لا يشترط فيه الانغلاق ولا الانعزال.

لأن السعادة مشاركة، شوهناها بأنانيتنا وخنقناها بجشعنا اللامنتهي، اعتدنا تخصيصها في الشؤون المصلحية الخاصة قبل كل شيء ولم نفهم بعد أنها شاسعة بقدر السماء، قادرة أن تغطينا جميعا لو تقاسمناها بحكمة وكفيلة بأن تنقذنا كافة من الغرق لو تمسكنا بطرف حبلها متعاونين لا متعاركين، غير مدركين لكونها تتمدد من غير أن تتمزق، قابلة للمشاركة دون تقسيم بالضرورة، يحلو طعمها أكثر حين تطبخ بيد الجماعة أو تصب اليها، تغذي العشرة وتذبل مع الاستفراد بها.

السعادة قد تكون الحزن نفسه مادامت ليست الفرح، السعادة كل شيء غير الشقاء.. السعادة قرار، قرار بسيط وليس سخيفا، صعب وليس معقدا، مغر وليس كاذبا، واضح وليس مكشوفا

فالسعادة عطاء، يتمطط بطبعه ليعود إلينا بما منحناه، سخاء لا يرتبط بما نملكه بل بما نحن مستعدون لتقديمه.. وهي رضا، تقبل للواقع وقبول للحتمي وإقبال على التغيير.. وكذلك هي إصرار، اختيار حازم وتصميم على بلوغها مهما حصل.. فهي الشموخ، السمو والارتفاع دون تعال، لا تتحصل بالتذلل ولا الحقارة والهبوط.. فهي خلق، وهي سلوك، وهي مبدأ، وهي مذهب، وهي عمل، وهي قول، وهي أمل، وهي راحة، وهي جهد، وهي نقاء.

السعادة مجموعة من كل الأشياء التي نعرفها دون أن نعرفها بالضبط، المبهمات الواضحات، الجامعات لكل المتناقضات، الشاملات العامات، التي يشبهن الإنسان كثيرا، في غموضه المكشوف وتعدد صوره، في حساسيته، في سعته وأغواره.

السعادة قد تكون الحزن نفسه مادامت ليست الفرح، السعادة كل شيء غير الشقاء.. السعادة قرار، قرار بسيط وليس سخيفا، صعب وليس معقدا، مغر وليس كاذبا، واضح وليس مكشوفا.. السعادة لا تعرف، فهي ليست شيئا. السعادة أشياء…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.