شعار قسم مدونات

رحلة حياة شيخ تنويري!

blogs شيوخ

ببدلة أنيقة وداخل استديو تلفزيوني فاره، يطل علينا الداعية والمفكر الاسلامي في رمضان هذا العام ليحدثنا عن قضايا معاصرة وحساسة كالإسلام والعلمانية، والحريات والعدالة الاجتماعية، وذلك بعد سنوات من التنظير حول هذه الموضوعات من على منبره المتواضع، أو عبر شاشة (يوتيوب) اختار أن يحدّث عبرها مريديه من الشباب، منتقداً ومقرّعاً لـ "شيوخ النفط والفضائيات" الذين اختطفوا الإسلام على حد تعبيره.

 

لكن لا بأس، فداعيتنا الذي تحول فجأة إلى "شيخ فضائيات" لا بد وأنه قد راجع نفسه، أو اكتشف سوء تقديره في التعميم على جميع الدعاة التلفزيونيين، أو ربما أدرك أن ما يحمله من رسائل دينية هي أكبر وأقيَم من أن يزهد بإيصالها إلى أعرض شريحة ممكنة من المشاهدين.

 

اشتهر داعيتنا بجرأة وفصاحة، وسعة علم واطلاع على العديد من المعارف الإنسانية والتطبيقية، وقد نالَ بسطة من الفلسفة والتنظير، وبعضاً من حدة اللسان على مخالفيه.. كان كثيراً ما يصبّ جام غضبه وسلاطته على رموز الجمود الديني، والاستبداد السياسي، وعبَدة التاريخ والتراث.. فاختار أن يُعالج سطوة النصوصيين واحتكار السلفيين لمشهد تفسير الإسلام وتمثيله بأسلوب الصدمة؛ فهو بارع في بعث الرسائل الفاقعة التي تشدّ الانتباه، وتفتح الذهن أمام النقد، وتهيئ القابلية للشك.. وقد نجح بهذا الأسلوب في مداعبة التوق الغض لدى الشباب نحو التغيير والثورة على المألوف.

 

لافت أن ينتكس الإنسان فيتلبّس بحرفية جميع الأدوار التي انتقدها بشراسة، فتجد أن من قضى حياته يدعو الناس للثورة على التاريخ والتراث الديني، يقف عاجزاً عن الثورة

عُرف داعيتنا إذن كمعاصر يعيش بيننا ويتحدث بلغتنا وأدواتنا، ويلعب في الوقت ذاته دور العراب للفكر التنويري، أو هكذا أراد تقديم نفسه، كنهضوي يدعو لنزع القداسة عن التاريخ والتراث وكثير من مسائل الفقه والحديث.. لكن ويا للعجب، لم يدُم هذا الدور طويلاً؛ فالرجل الذي صنعت مشاعر الربيع العربي -صعودا وهبوطاً- الحظ الأوفر من شهرته، ما لبث أن أوقعه الظهور التلفزيوني في مظهر المتناقض مع أفكاره.

 

فالداعية الظاهرة في جرأته وحدّة مواقفه من التراث ودعوته للتجديد التي تذهب حدّ مراجعة الموقف من صحيح البخاري ومسلم، والمطالبة بتعديل أحكام المواريث التي "تظلم النساء"، وإعادة نبش تاريخ الفتن بين الصحابة، يقف أمام مظلومية الشعبين السوري والمصري بارداً متحفظاً وعقلانياً إلى درجة ترديد سرديات "المؤامرة الاستعمارية" على سوريا و"الحرب الأهلية" في مصر.

 

لكن الموسم الرمضاني هذا العام حمَل سقوطاً من نوع جديد.. فقبل أيام قلائل خرج داعيتنا يخطب عن العدالة الاجتماعية وواجبات الدولة، وعندما سأله المذيع عن نظام سياسي يشكل نموذجاً في العدالة واحترام حقوق الإنسان، قفز ليسمّي ذلك النظام الذي دعم الانقلاب العسكري في مصر، وموّل الانقلابيين في ليبيا، ويدعم اليوم فكرة تقسيم اليمن، وإنهاك المحيط العربي في مشكلات بينية غير مسؤولة، ناهيك عن اعتقال هذا النظام لعشرات من مواطنيه المطالبين بالإصلاح، وسحب الجنسية من آخرين، واختطاف نسائهم وأخواتهم إمعاناً في قهرهم.. هكذا برشاقة، يخلع داعيتنا عباءة الثائر على الاستبداد/السليط على الصحابة والتراث، ويرتدي ثوب الدبلوماسي المتلون والمداهن، ويُعطي ذلك النظام وسام العدالة الناجزة وحقوق الإنسان الموفورة.

 

قدَرُنا كأمة مسلمة أكبر وأرفع من أن نختار الوقوع بين فكي كماشة المدرسة الدينية التقليدية وفقاعات التنوير الكاذبة، فلا بد من طريق ثالث يسعى لنقد النصوصية والجمود

لافت أن ينتكس الإنسان فيتلبّس بحرفية جميع الأدوار التي انتقدها بشراسة، فتجد أن من قضى حياته يدعو الناس للثورة على التاريخ والتراث الديني، يقف عاجزاً عن الثورة -ولو كلامياً- على هذا النظام المستبدّ أو ذاك.. والأغرب أن من يستطيع الإبحار 1400 عاماً في التاريخ ليفضح "ظلم واستبداد" بعض الصحابة -رضي الله عنهم- يعجز ضميره عن رؤية الظلم الممارس جهاراً نهاراً من قبل أنظمة يُعاصرها عن قرب حدّ الظهور على فضائياتها وتلبية دعواتها ومؤتمراتها.

 

قدَرُنا كأمة مسلمة أكبر وأرفع من أن نختار الوقوع بين فكي كماشة المدرسة الدينية التقليدية وفقاعات التنوير الكاذبة، فلا بد من طريق ثالث يسعى لنقد النصوصية والجمود؛ لكن بعقلانية السعي نحو التجديد لا التسلق على أحلام الشعوب وخيانة توقهم للتغيير. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.