شعار قسم مدونات

عافية الدين وعلة التدين

blogs - islam
عَودَة إلى الِفئَات التي تَدّعِي الدّين والتزمّت، والتي صَار الدّين بالنّسبَة لهَا مُجرّد شِعَارَاتٍ تُرفع ودَوَرَاتٍ تُعقد، ثمّ في مَيَادِين التّطبيق يُصبحُ كلّ شيء مُباح تحت شِعَار: "ارتع في السّاحات كيفما شئت، فالرّجال فينا محارمٌ للنّساء باسم الفكر" ومن يُخَالفُ هَذَا ما هُو إلاّ متخلّف، معقّد، عَدِيمُ الفَهْمِ.

الأكيد أنّ حَديثي لا يتضمّن الجَميع لكن للأسف الأغلبيّة السّاحقة، فقد تأثّر جيلٌ بأكمَلهِ بِردَاءة البيئة و انحِلال الأخلاق فما سَلمَ منهَا إلاّ من رَحِم رَبّي، فمنهم من ألمّ و قارف، و كأنه قد غرق، ومنهم مَنْ توغّل و أكثر، ومنهم المُتخَفّف و كذا صَاحب الفَلتَات النّادرة.

الحَقِيقَة أَنّ الأجيَال الدّعويّة تَشْهَدُ هُبوطًا واضحًا في الدّقَائق الإيمَانيّة والذّوقِيّة، فالقَادمُون ليسُوا كجَودَة السّابقُين، رَغمَ أنّ منهُم من هُو أطلَقُ لسَانًا وأكثَر وعيًا سياسيًا كَان أو علميًا.. وإنّ أيضًا مِن قَادتنَا من اتّبَعَ هَوَاهُ وكَان أمْرُه فُرُطَا، وهؤلاَء القَادَة مَا هُم إلاّ نمُوذجٌ وَاهِنُ التّكوين أصَابَه تلوّثُ المُحيطِ، فأضحى والجُدُد في الرّكبِ سَواء.

صارت اللقاءات المختلطة تعقد لسَاعَات مُتأخرة تَتَجَاوز، وكأنّ النّهار لا يتّسِع لنَا، وسَقطت الكُلفة في التّعَامل والاحتشام في الحَديث والذي خَرجَ إلى القَهقَهة والتَّواصُل حَتّى سَاعَات مُتأخّرة من اللّيلِ سَواء على مَوَاقعِ التّواصِل الاجتمَاعِي أو عبر الهواتف.

لذا يبدو أنّه علينَا العَودة بأنفسِنَا وإطَاراتِنَا إلى مرحَلةِ الصّفر، فنتعلّم ونعلّم معنَى الحدود في التّعامل بين الجنسين والضّوابط الشرعيّة في ذلك، رغم أنّني أعلم أن أغلبكُم يحفظُها عن ظهر قلب بل ويُلقي فِيهَا خطابات ومحاضرات، تُفتحُ لهَا الأفواه إعجابًا وتَدمعُ لها الأعينُ خشية وإيمانًا وتعتليها التصفيقاتٌ إجلالاً وإكبارًا (رغم أنّنا نصفّق لكلّ شيء أعجبَنَا أو لَم يُعجبنَا كأنّ التّصفيق صَار عَادة)، فمن أنا لأعلّمكم؟!.

كنّا نتهرّب من التّعامل مع غير المتديّنين خوفًا من تجاوزاتهم وعدم اطلاعهم على أبجديّات التّعامل، فها نحنُ نجد اليوم فيمن يحملون نفس فكرنا ومنهجنا أشباهُهُم، ينجرّون نحو الشّبهات طوعًا ومن كرِه منّا الأمر كان من ثلّة المنبوذين، المتخلّفين الذين لم يُرخُوا حبل التّعامل ولا خضعوا لَهُم في القول. فصار الاحترام يُلقى عند غير المتديّنين بل منهم من يعرف حدود التّعامل أكثر منّا!. فصارت اللقاءات المختلطة تعقد لسَاعَات مُتأخرة تَتَجَاوز مُنتَصَف اللّيل، وكأنّ النّهار لا يتّسِع لنَا، وسَقطت الكُلفة في التّعَامل والاحتشام في الحَديث والذي خَرجَ إلى القَهقَهة والتَّواصُل حَتّى سَاعَات مُتأخّرة من اللّيلِ سَواء على مَوَاقعِ التّواصِل الاجتمَاعِي أو عبر الهواتف.

هذا دون الحديث عن طريقة الحديث نفسِهَا التي لم تقتصِر فقط على الخُضوع في القول بل تعدّت ذلكَ إلى الصّراخ والشّتم (و لست أتحدّث عن صُراخ الرجل في وجه آخر و لا شتم بعضهم بعضًا فهذا أصبح أمرًا عاديًا بالنسبة لهم، بل أقصد أن يكون هذا التصرّف بين الجنسين) فصِرنَا وأبناء الشّوارع سَواء، و الأدهى و الأمر أن تَجِدَ مَجَالِسَ القيل و القَال عندَ الرّجال تمامًا كتلكَ المَجَالِسِ النسائيّة بل و تتعدّها (ولَكَم أخجل من وصفِهم بالرّجالِ) تهتَكَ فيها أعراضُ نساءٍ فتذكرُ مفَاتِنٌ و تُعدّد مساوئٌ، ولكَ أن تُطلِقَ العنَان لخيالِكَ فما خفيَ كَان أعْظَم!.

حَسَنًا، سأفترض أنّ أغلبنا مُصاب بداء "ألزهايمر" فأذكّر لأنّ الذكرى تنفعُ المؤمنين بقوله تعالى:" قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ" ثمّ الأكيد أنّ كلّ هذهِ مَا هِي إلاّ فلتَاتٌ لا يَبْرأ منها أحدٌ منّا، وابن آدم لابدّ وأن يُلازمَه الخَطأ مهمَا حرص، فلسنَا نتكلّف التّهم لأحد، ولستُ بصدد قذفِ اليأس في القلوبِ ولا توليد الإحباط والزّهد في العمل الدّعوي، بل إنّ لكَلاَمِي مَقَاصِد ثَلاث وهي:

أوّلاً:
الانتقال من مرحلةِ التّنظير إلى التطبيق ومن قدوة الأقوال إلى قدوة الأفعال، فلَيسَ من شَأنِنَا أن نخطّط سياسيًا واقتصاديًا فحسب ولا أن ننشر علم اللّسان فقط بل إنّ دعوتنا قبل هذا كلّه هي رفعة الذوق ورقّة التعامل، هي دعوة أخلاقٍ نبيلةٍ وعفّة، لتكوين دُعاةٍ لا خُطَباء وسياسيّين.

آن الأوَانَ لكَي نُنهِي هَذهِ المَهزَلَةَ، وأن نجعَلَ أفْعَالنَا ترجَمَةً وَاضحَةً لأقوَالِنَا فقَد لوّثنَا الدّين بمَا فِيهِ الكِفَاية، وأثقلنَا كَاهلَه بتَجَاوزاتِنَا التي لا تمتُّ لَهُ بأيّ صِلة، لا تعظني، في حِينِ ترتَع أنتَ في شَهواتِ نفسك على الملأ.

 ثَانِيًا:
إخراج الدّاعية من إطَار الغَفلَة والتّبرير وإطلاَق الأحكَامِ، إلَى الوُقُوف مع النّفسِ ونقدِ الذّات ومُحاسَبتِهَا، فَليسَ مِن الصّوابِ أن يَضَعَ المَرءُ مِنّا نَفسَه فَوقَ التَعلّم والتَربيَة، فيستَعلِي عَن كَلامٍ يزجُره حَتّى لو سَمِعه بَدَلَ المرّة ألفًا، فتأخذه العزّة بالإثمِ إن توجّه إليه غيره بالنّصح، ويجد مبررًا لكلّ تَصرّفَاتِه بَل ويُلقي باللّومِ على غَيرهِ فكلّ النّفُوسِ دُون استثناء قَابلَة للوُقُوع في الخَطأ وَقتَ الغَفلة فتنزلُ إلى مُستَوى العَوَام، مَهمَا كَان مقَامُهَا بَينَ النّاس، لذا كَان على المُخطئِ الاعتذار عَن أيّ خطأٍ ارتكبَه في حَقّ أيّ جَمَاعَةٍ كَانت وفي المُقابل وَجَبَ على هَذه الجَمَاعةِ العَفو.

ثَالِثًا:
انتصار الأجيَال الجَديدَة على المُتشَدّدينَ مِن الأجيَال القَديمَة، وإعَادة الاعتبار لهَا، نظرًا لمَا رجّحُوه عَنهَا من كونِهَا أجيَالٌ فاسِدة لا أمل منها. وإثباتِ أنّه ما نحنُ سوى ضحيّة لهذه البيئة الملوّثة وأنّ هُناك من الخَير الكثيرِ يُنتَظَرُ منّا.

المُشكل أنّنا لا نعترف بأخطَائِنَا بل نُصِرّ ونُبَرّر ونَختَلِقُ بَدَلَ العُذر ألفًا للتّجَاوُز. فمَاذَا تَرَكنَا نَحنُ للنّاس العَاديّين؟ أتَعلَم ماذَا ترَكنَا! تَرَكنَا ثغراتٍ يتسلّل عَبرَهَا المُترصّدون، تَرَكنَا خَلْفنَا أخلاقًا حَملها أسلافُنا مِشعلاً، فقط لنَمِيلَ ونَستَمِيلَ، لنُشبِعَ شَهَواتِنَا وغرَائِزَنَا، لنَغْرقَ في لذّة الاختلاط لحَظَات ونَحصُدَ من الاثْمِ الكَثِير، وفَتَحنَا بابًا في الدّين ليَقتَحٍمَهُ المحاربُون.

آن الأوَانَ لكَي نُنهِي هَذهِ المَهزَلَةَ، وأن نجعَلَ أفْعَالنَا ترجَمَةً وَاضحَةً لأقوَالِنَا فقَد لوّثنَا الدّين بمَا فِيهِ الكِفَاية، وأثقلنَا كَاهلَه بتَجَاوزاتِنَا التي لا تمتُّ لَهُ بأيّ صِلة، لا تعلّمني ما يَجبُ أن أفعَلَه، في حِينِ ترتَع أنتَ في شَهواتِ نَفسِكَ عَلى الملأ، لا تُلقي عليّ خِطَابَاتك الفَارغَة، في حِينِ تُهاجِم مَن يَتَمسّكُونَ بِمبَادئِهِم. اجعَل هَذَا الجِيل يَرَى ذَلكَ في مَيَادين العَمل، كُن أنتَ القُدوَةً الصّامتة في زَمَنٍ كثُرت فيه الأسطُوانَاتِ المكرّرة، إذا لم يكن هذا احترامًا لذاتك، فليكُن وَاجبًا يفرِضُه عَليكَ عَهد قَطَعتَه، وإنْ لَم يكُن لا هَذَا ولاَ ذَاكَ فَليكُن حَيَاء مِن رَبّ العِبَاد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.