شعار قسم مدونات

أم صالح التي ذكرتني بجدتي

blogs - Palestine

وقفت طويلاً أمام ملامح الحاجة "أم صالح القني" وتأملتها كأني أعرفها من قبل، حتى أن تجاعيد وجهها ليست غريبةً عني البتة، لأنها تشبه تجاعيد إنسانة أحببتها كثيرًا، فهي حينما كنت طفلاً كانت تأخذني معها كثيرًا في رحلاتها خارج قطاع غزة.

 

كانت الرحلة تبدأ منذ ما قبل الفجر حيث نتجهز ونذهب لانتظار الباص، ودائمًا نكون أول المنتظرين وإذا ما وجدنا أحدًا ينتظر قبلنا كانت تشعر بالتقصير، وكنت أحب تلك الرحلة لأنني كنت أحب جدتي كثيرًا؛ فهي كانت حنونةً إلى أبعد حد وتشتري لي الحاجيات التي كنت أحبها خلال الطريق.

 

فقد كانت عنوانًا عظيمًا في الكرم والعطاء، فلا تبخل وتبذل حتى لو من قلة بل وإن احتاج الأمر تقتطع من جسدها لتعطي، وكذلك فعلت حين تبرعت لابنها المريض بإحدى كليتيها.

 

لكن تلك الرحلات من أعجب الرحلات في هذه الدنيا؛ فهي تحمل الحزن والفرح معًا وتحوي الاشتياق واللقاء معًا، إنها الرحلات التي تختبئ فيها الدمعات خلف كل ابتسامة، فكيف للأم أن لا تكون سعيدةً بلقاء ابنها؟ ولكنها أيضًا لا تطيق أن تراه بهذا الحال بعيدًا عنها بعدًا قسريًا داخل سجون الاحتلال. 
 

دموع أم صالح كما رأيتها في الصورة تذكرني أيضًا بدموع جدتي الصابرة، فلم تكن تبكي بانكسار بل بشموخ، تنساب الدمعات على خدها دون أن تنحني هامتها أو تنوح، وكانت تتسلح دومًا بالأمل وتنتظر عودة ابنها في كل يوم

أم الأسير "صالح القني" انتشرت لها صورةٌ وهي تبكي خلال تواجدها في خيمة التضامن مع الأسرى المضربين عن الطعام، وهي تعتصم هناك منذ 17 يومًا، تتابع عن كثبٍ أخبار ابنها وأخبارهم، ولعلها بكت من شدة الشوق أو من شدة الخوف على ابنها الذي يعاني من بقايا شظايا رصاص الاحتلال في جسده حيث يرفض الصهاينة توفير العلاج اللازم له وإجراء العمليات لإخراج الشظايا.

 

لا تشبه أم صالح جدتي فقط في ملامح الوجه بل كانت جدتي أيضًا لا تترك أي فعالية تضامنية مع الأسرى إلا وتشارك فيها، ومن ذلك الاعتصام الأسبوعي لأهالي الأسرى، فقد كانت تأبى إلا أن تحمل صورة عمي الأسير بنفسها رغم كبر سنها وإعاقة في قدمها نتيجة حادث أصابها.

 

وكانت تهتف رغم قسوة الهتاف على فكها الذي كان يعاني من أثر الرصاصة الصهيونية التي أصابته، لكنها كانت أقوى من المعاناة التي شكلت تجاعيد وجهها الكثيفة وشكلت شخصيتها الصابرة المثابرة، فهي قاومت صلف الحياة بكل أنواعه حين صبرت على أذى الاحتلال ونوائب الدهر، فقد ربت أبناءها أيتامًا في بيتٍ من الصفيح، وحرصت على تعليمهم جميعًا حتى أصبح منهم الطبيب والمدير والمحاسب والضابط.

 

كانت جدتي من أعظم قصص الصبر التي عشنا معها؛ فقد تحملت الفراق وفقد الأبناء وتحملت انتظارًا طويلًا لابنها الأسير، وخلال هذا الانتظار توفي اثنان من أبنائها، أحدهم بحادث سير في الغربة والآخر بعد رجوعه من الغربة طبيبًا في حين كانت تتشوق للحظة الفرح له وبه.

 

دموع أم صالح كما رأيتها في الصورة تذكرني أيضًا بدموع جدتي الصابرة، فلم تكن تبكي بانكسار بل بشموخ، تنساب الدمعات على خدها دون أن تنحني هامتها أو تنوح، وكانت تتسلح دومًا بالأمل وتنتظر عودة ابنها في كل يوم، وأحيانًا عندما كنت أزورها في الصباح خصوصًا بعد أسر المقاومة لجلعاد شاليط، كنت أجدها وقد استيقظت مبكرًا تنظف البيت وتجهزه لاستقبال ابنها والمهنئين بعودته، فهي كانت تشعر بأن عودته حتمية وقريبة جدًا، وكثيرًا ما كانت تنطق باسمه متلعثمةً حيث كانت تنادينا وتقول حينها: "هذه بشرى من الله أنه أجرى اسمه على لساني وسيعود قريبًا إن شاء الله إلى المنزل وأناديه".

 

لم يهزم اليأس روحها طوال عشرين عامًا من الانتظار والشوق حتى خرج عمي في صفقة وفاء الأحرار مع مئات الأسرى الآخرين، وكانت تلك أسعد الأيام التي عاشتها جدتي وعشناها معها، ويا ليتها عاشت معنا أكثر إلا أن هذه الدنيا قصيرة مهما طالت، وبإذن الله ذهبت لتأخذ أجر إيمانها وصبرها الطويل فدعواتكم لها، وسلامًا عليها كانت مدرسةً في الصبر والعطاء والحب والوفاء، سلامًا عليها وعلى أمهات الأسرى أجمعين، سلامًا عليها في كل حين وعلى كل الأمهات الصابرات في فلسطين

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.