شعار قسم مدونات

ما هي الأخلاق (2)

blogs - city

تساءلنا في المقال السابق "لماذا علينا أن نبحث أصلا عن قيمة أعلى من تلك التي نمنحها نحن كأفراد أو يمنحها المجتمع والثقافة للأفعال والمواقف والأشياء؟" فبالنسبة للأخلاق، لماذا يجب أن تؤسس على مرجعية أعلى من الإنسان والمجتمع والثقافة، أي لماذا يجب أن تكون مفروضة من قبل سُلطة عليا مفارقة للتاريخ والوعي الإنساني؟

 

في مقال سابق عن الأخلاق بعنوان "في نقد النزعات الأسطورية" اعتبرتُ أن البحث عن أساسٍ متعالٍ للأخلاق والدين وللحقيقة عموما، هو وليد نزعة أسطورية لدى الإنسان لا تعترف بما هو إنساني وتاريخي ونسبي، وتنظر لكل ما هو كذلك على أنه بلا أساس وبلا قيمة. إنها في الواقع رفضٌ وإنكارٌ للإنسان نفسه. فهي تقضي بأن كل ما هو إنساني فهو باطل، أو أن الإنسان نفسه باطل، وأنه لا يستطيع تأسيس الحقائق ووضع المعايير، وعليه يجب أن نبحث دائما عمّا هو فوق الإنسان والتاريخ. ذلك هو نزوع الإنسان للهروب من ذاته، نحو الحقيقة أو الله أو المطلق. انه دائما بحثٌ عمّا يفوق الإنسان. فهو ومنذ البداية لا يبحث عمّا هو إنساني.

 

ينزعج بعض الناس من فكرة أن يكون الإنسان هو بنفسه صانع الأخلاق والقيم، لأنها قد تفقد بالنسبة له معناها وسُلطتها وإكراهها، وكذلك تعاليها. ولكن لماذا يحدث ذلك، أو بعبارة أكثر وضوحا لماذا يحتقر الإنسان نفسه؟

 

من جهة أُخرى، تملك المجتمعات الإنسانية دائما القدرة على فرض الأُمور، حتى دون الحاجة إلى مرجعيات أعلى من المجتمع وثقافته. بل هي قد تعمل على فرض أُمور خاطئة تماما من وجهة نظر بعض أفرادها، وبالقوة وحدها. هُنا تعمل "الحقائق الاجتماعية" أو الحقائق المفروضة اجتماعيا ظاهريا كأساس لثقافة أو لأخلاق المجتمع، ولكن الواقع هو أن المجتمع هو من يحميها ويمنحها السُلطة والبقاء.

 

بالعودة لسؤال البداية، هنا لا تكون الأخلاق بحاجة إلى مرجعية أعلى من المجتمع وثقافته. وهي تمارس سلطتها على الأفراد من خلال الإكراه الخارجي. ولكن على المستوى الفردي يُمكن أن يبقى السؤالُ مطروحاً: ما هي المشروعية التي يملكها المجتمع؟

 

وفي الواقع فإن المجتمع يملك القوة بأشكالها المختلفة. القوة المادية مثل سلطة القانون، والقوة المعنوية مثل اللغة والفكر والثقافة، وهي كلها تحيط بالإنسان من كل الجوانب. فالقوة هي المعادل الواقعي للمشروعية من وجهة نظر المجتمع. ولذلك فإن السؤال عن أساس الأخلاق لا داعي له على هذا المستوى.

 

المجتمعات كأنظمة لا تتساءل ولا تبحث عن أُسس، الإنسان الفرد هو الذي يفكِّر ويتساءل ويبحث عنها. هنا وبواسطة الفرد، يطرح العقل نفسه كقوة لا تعترف إلا بنفسها، وإلا فكيف يفكِّر الإنسان في مواجهة المجتمع والتاريخ والثقافة.. كيف يتساءل عن المشروعية التي يملكها المجتمع إذا لم يكن ينطوي على قوة تخوله مساءلة هذه المشروعية، هي قوة التفكير والعقل. ولكن ما هي مشروعية العقل نفسه؟

 

لابد للإنسان أن يختار ما يراه صحيحا وأن لا يقف حائرا مترددا. والمجتمعات دائما تفعل ذلك، تختار أو تخلق ما تراه صحيحا، ثم تحرسه وتحميه بأشكال القوة المختلفة. وحينما نقول "نختار" فنحن لا نعني ذلك حرفيّا، وإنما بشكل مجازي

إن الفرد الذي يخرج من قيود المجتمع بتفكيره وعقله- إذا كان ذلك ممكن أصلا- هو البطل الأسطوري والمأساوي للأخلاق والحرية الذي تكلمنا عنه في مقال "الأخلاق والحرية 2". ذلك البطل الأُسطوري الذي يضع المجتمع والتاريخ موضع المساءلة استنادا إلى العقل و"الحقيقة"، أو بكلمات أدق استنادا الى الذاتية. هذا البطل الذي تحرر للتو من سلطة المجتمع، لا يجد غير ذاته ليستند عليها، فحتى العقل و"الحقيقة" والموضوعية هي أمور لا توجد إلا على مستوى اجتماعي وتاريخي. إن ما يبدو لنا على أنه قوة لا تعترف إلا بنفسها، أي العقل، هو في الواقع ليس إلا هذا الفرد الحر في مواجهة كل شيء آخر عداه. ومن هنا تولد مأساته.

 

إن ما تفرضه قوة المجتمع أو ما يفرضه التاريخ هو بكل تأكيد ليس خاطئا بالضرورة، ولكنه أيضا ليس صحيحا بالضرورة. وفي الواقع لا يُمكننا الحكم بمعيار الخطأ والصحيح إلا من وجهة نظر المجتمع والتاريخ نفسه. مثلا في الماضي كان يمكن بيع الناس وشرائهم، لم يكن ذلك فعلا خاطئا، أما الآن فهو خاطئ، وذلك بالطبع إذا تجاهلنا تلك الآراء التي ما تزال تدافع عن الرقيق والجواري، باعتبار أنها لا تنتمي الى "الآن" الذي نتكلم عنه.

 

ولكي تكون هناك أحكام معيارية صحيحة من وجهة نظر العقل الانساني الحُر، يجب أن يكون هذا العقل مستقلا عن التاريخ، بل مستقلا عن الإنسان نفسه. ولقد دلّ الماضي على أن العقل لم يكن يوما مستقلا عن التاريخ، مهما كان حرا.

 

إننا كأفراد في النهاية لا نملك إلا ما ورثناه عن أسلافنا بيولوجيّا وثقافيّا، وما قد نتعلّمه من مجتمعات أُخرى فرض عليها تطورها أخلاقا وقيما جديدة أكثر تقدُّما ورقيّا. أقول ذلك على الرغم من الجدل الذي يُمكن أن تثيره مفردتي "التقدُّم" و"الرقي" إذ ليس هناك معيار مستقل لتحديد مضمون ما هو تقدُّم ورقي. ولكن في النهاية لابد للإنسان أن يختار ما يراه صحيحا وأن لا يقف حائرا مترددا. والمجتمعات دائما تفعل ذلك، تختار أو تخلق ما تراه صحيحا، ثم تحرسه وتحميه بأشكال القوة المختلفة. وحينما نقول "نختار" فنحن لا نعني ذلك حرفيّا، وإنما بشكل مجازي مثلما نقول "الانتخاب الطبيعي"، فالطبيعة لا تنتخب ولا تختار، وكذلك المجتمعات، وإنما هناك آليات تشتغل لتخلق وتحقق ما نسميه انتخابا أو اختيارا، بل هي التي تخلق ما نسميه أخلاقا أيضا.

 

في المقال القادم نتناول الأخلاق والدين. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.