شعار قسم مدونات

إلى فتاة مقدسية

blogs - فتاة فلسطينية
دعوني أخبركم أولاً أنني لا أتحدّث عن تلك التي تسافِر، ولا تلك التي تملك جوازَ سفرٍ يجوزُ لها به السفرُ أينَما شاءت، ولا تلك التي تلبِسُ على الموضة وتجلسُ في المطاعم وتذهبُ إلى الأسواق، أو تلك التي تخرُجُ وتدخلُ إلى أيّ بلادِ متى شاءت، ولا تلك التي تعيشُ في المنفى، أتحدّث عن تلك المقدسية، تلك التي لا تعرِفُ لها صرحاً سوى داخلِ أسوارِ دارِها، وشارعِ المدرسة وصَفِّ اللغة والرياضيات، تلك التي تحكي عنها حكايا القَصص، وأبجدياتُ اللغة، وأغاني الحروبِ وسلالمُ الحاراتِ الطويلة، الفتاة ملائكية الوجه، غجرية الشعر، واسعة العينين.

تحمِلُ كتاباً عن القدس وتتمنى رؤيتَها ولا تستطيع تجاوُزَ أكشاكِ مدينتِها، ولا الجدارَ العازل الذي عزلَ عنها حاراتِ القدس ومآذنَ الأقصى، وأزقةَ الطرقات المُنحنية، هي لم ترَها لكنّها تحفظُها عن ظهرِ قلب، تعرِفُها في الصّحفِ والأخبارِ ورواياتِ إبراهيم نصر الله وأنور حامد، وشِعر سميح القاسم، في زغاريد العجائزِ والأغاني ثورية وأحاديث الأبطال…

هي تلك الفتاةُ التي تشارك في زينةِ زفّة العريس أو الشهيدِ الجديد، هي تلك التي تعرفُ البنادقَ والرّصاصَ وأسماءَها، تلك التي لها أحبابٌ تنتظرُهم خلفَ الأسوار والأختام والأشكاك، وفي السجون، والشهداء وما أكثرهم.

هي تلك التي شاركت أطفالَ الحجارةِ طفولتَهم، هي تلك الرقيقةُ القويةُ، الحانيةُ الشديدةُ، الخائفةُ الصّابرة.
تلك التي تستلم رسالةَ حبيبِها المناضلِ في الجبهة، يأتيها خِلسةً ليضعَ في يدها قُبلةً ورسالة، ويعدُها أنه سيعود ليتقدَّمَ لها فورَ انتهاءِ المَهمة، في كل مرة تنظُرُ إلى عينَيه تعتقِدُ أنّها المرةُ الأخيرة، فتدمَعُ عيناها. 

هو رجلٌ من الظلامِ من الابتهالات وصلاةِ الغائب وويلاتِ الحروبِ والبداياتِ المُخيفة والأفكارِ المتزاحمةِ على عتبةِ العقل، وفزعِ اللقاءات الأخيرة. هو رجلٌ مرَّ عليه العمُرُ ثقيلاً بعيداً عن الحياة، قريباً من الموت.

يتبادلان الرسائلَ التي يحكي لها بها عن شجاعتِه في القتالِ في آخرِ عمليّةٍ قام بها، وهي تحكي له عن آخِرِ كتابٍ قرأَته، ذلك الكتاب الذي لم يصل إليها بورقه وملمسه الدافئ بل بحثت عنه عن طريق الإنترنت بعد محاولات جاهدة للوصول إليه، كان الكتاب قصة لعاشقَين عاشا بسلامٍ، سألَته في نهاية رسالتها: هل صحيحٌ أنّ السلامَ الذي نسعى لتحقيقِه هو مجردُ حلُم؟ 

تلك التي لم تعِش قصةَ حبّ واحدةٍ بل عاشت العديدَ منها، في كلِّ مرة تقرأُ فيها كتاباً، فتنهالُ أحداثُه في رأسِها لتخرجها من حياة مريرة أشبعتها ألما، في كل مرّة تلتقيه بها تحت شجرةِ الزيتون التي عاشت قبلَ ذكرياتِ الحروبِ وقبلَ اتِّفاقيّاتِهم وتواقيع عُهودهم.

في لسانِها طلاقةٌ وجمالُ حرفٍ وسحرٌ فتّان، أينَما حلَّت بدا وجهٌ كالبدر في المكان، كطيفٍ خفيفٍ لطيفٍ في خاطره ليسعفَه عتمة المكان.. وهو، هو رجلٌ من الظلامِ من الابتهالات وصلاةِ الغائب وويلاتِ الحروبِ والبداياتِ المُخيفة والأفكارِ المتزاحمةِ على عتبةِ العقل، وفزعِ اللقاءات الأخيرة. هو رجلٌ مرَّ عليه العمُرُ ثقيلاً بعيداً عن الحياة، قريباً من الموت.

وحينما يخيِّم الليلُ، تتحولُ المنطقةُ إلى غابةٍ ملأى بالوحوش، ينكمِش على نفسِه، ينظرُ إلى السماءِ من الشِّقِّ في السقف، فيهيّأُ له صورتُها ولمعانُ عقدِ اللّؤلؤ الملتفِّ حولَ رقبتِها، وصوتُها يغرِّد كألحانِ طائرِ الكروان.

كان مؤمناً أنَّها أجملُ ما أهداه إياه الخالقُ في هذا الكونِ الممتلئِ بالضجيج. حروفُه تعجز، قلبُه يخفقُ بشِدّة… وهي ما زالت تُخصّص له من أحلامِها نصيباً، ما زال رجاؤها في كلِّ مرة تستخيرُ فيها ربّها، تنتظِر لقاءه شهوراً وسنوات، تنتظر، تبعثِر رسائلَه كلَّ مرة يختفي بها علَّه خبأ شيئاً بين ثنايا سطورِها.

تشرَب من الكوبِ الذي أهداها إياه، وقد ألصقَته ولملمَت أجزاءَه بعدَ أن وقَع وتكسّر عشرات المرات. ما زالت تُخفي عينَيها عن القمر وقد أخبرَها يوماً أنها قمرُه وأنّ القمرَ في السماءِ يغارُ من قمره. ما زالت تحتفِظ بزهرتِه حتى بعدما ذبلَتْ وجفَّت وتفتّتَت.
"لو أنك تعلم" تنهي بها جميعَ رسائلِها.

هو الأسيرُ المحرّر في خيالِه الذي يبحثُ عنها، لكنّ المسافاتِ الطويلةَ بينَهُ وبينَها جعلت الحياةَ التي تجمعُهما سوية مستحيلةً وغيرَ ممكنة.

أتحدّث عن تلك المقدسيّة، تلك التي تسرِق من الحياة حياةً، وتدفع حُبّها فداءَ وطنٍ محتل. وتدندن:
لن يُقفَل بابُ مدينتِنا… فأنا ذاهبةٌ لأصلّي..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.