شعار قسم مدونات

عن الترجمة.. أو مع هولدرلين في شقوته

مدونات - ترجمة

عندما سجَّلت أوّل مرةّ في قسم التَّرجمة بجامعة وهران، لم أكن أملك تصوُّرا واضحا عن التخصّص الذي سأقضي معه وفيه سنيّ الجامعة وعمري المقبل كلّه، كان حلمي حينها أن أدرس صحافة أو سياسة، الحلم التقليدي لجيلي الذي عاصر المرحلة الذهبيّة للسياسة في الجزائر في ساحات الخطابة في التجمعات الشعبية التي شهدت أهمّها في قريتي الصغيرة عين السخونة مع أولاد مومن، العرش الأكثر تعاطيا للسياسة وما بعدها في زمن التعددية، وفي الصحف الوطنية، وعلى شاشة التلفزيون مع مراد شبين ومدني عامر وخديجة بن قنة وغيرهم من إطارات الصحافة الجزائرية الذين لفظهم الخراب بعيدا عن أرض الوطن.
 

ولازلت أذكر إلى اليوم لازمة شبين في حصته في لقاء الصحافة: لقاء يجمع بين رجل السياسة ولغة الخشب.. اللازمة التي ظلَّت عالقة في ذهني بنصِّها دون محاولة تمعّن إلى أن صحّحها لي بعد أكثر من عشرين سنة على فيسبوك، بأسلوبه الدبلوماسي المعهود: "سعيد أنك لازلت تذكرين تلك الأيّام يا رحمة، لكن أظنّني كنت أقول بين رجال السياسة بعيدا عن لغة الخشب، لكن لا عليك فقد كنت صغيرة ".
 

عندما تمارس عنفك الطبيعي على ذاتك لتقبل استضافة آخَرك أملا في التضايف يوما، فتجده يحتل كل مساحاتك، فيمنع عنك النظر ويتقلص الأفق أمامك، وتشتبك مشاعرك وأفكارك وتشتبه عليك فتستحيل الحياة السَّوية ضربا من المستحيل، فتقضي وحيدا شريدا..

انتهى حلم الصحافة عندما انحرف المسار نحو العنف والموت المُشرع على الطرقات، كانت طريق سعيدة وهران الوحيدة الآمنة التي استطاعت تحمّل حلم الطفلة يوما في أن تكون أحدا ما يملك القدرة على رفع القلم وسرد الحكاية كما تتراءى في مخيالها وتنطبع في وجدانها، لم يستمر الحلم طويلا فسرعان ما اغتِيل عند عتبات جامعة وهران التي دخلتها أوّل مرّة دارسة للترجمة في نهاية التسعينات، فلم أجد ترجمة تُنجز ولا علما يُلقّن ولا منهجا يُتبع، لا أحد كان يعلم ما يفعل في ذلك القسم، الجميع كان يُغالب الجميع لأجل المناصب والشهادات، وتبنِّي التخصّص دون إدراك لماهيته ولا استحقاقاته، تكون الصدمة عميقة تُشتّت ذاتك فتضيع بوصلتك أو تكاد، عندما تكتشف أنك واقعت السراب، فتحاول البحث في زوايا أخرى عن معنى وغاية لحياتك الجامعيّة على الأقل.. اندمجت في العمل الطلابي جمعويا حينا، ونقابة أحيانا أخرى، فكنا ننظم الاحتجاجات ضد الإدارة أو الرسوم الكاريكاتورية المسيئة لا فرق، فالأهم بالنسبة لنا كان محض ممارسة الرفض ومحاولة إثبات وجود، أننا لسنا تعدادا بل مجموع إرادات.
 

وعلى الرغم من كونها حياة جامعيّة حافلة بالعمل والبهجة الثوريّة كما تصورتها آنذاك، إلا أن طيف الحلم لم يفارقني يوما، حاولت نسيانه والانتقال إلى موقع آخر في الحياة، ففشلت فشلا ذريعا لأن الزمن كان قد فاتني لإدراك فلسفة التفاعل مع مجتمع لم أتعرّف عليه إلا طارئة.. تخليت عن الترجمة طواعية يوم كنت الأولى على دفعتي، ولم ألتحق بالماجستير كما تنصّ عليه قوانين الجامعة، واندمجت في سوق العمل أستاذة للغات، كان الموقع الجديد غريبا على شخصيَّتي التي بدأت تنتكس نتيجة التكرار الممل، والمناهج الدراسية الجافة، والبيئة الضاغطة، حتى كان سقوط بغداد ذات ربيع حزين، كان الحدث على مأساويته، والدمار الذي خلفه في وجداننا هو طوق النجاة بالنسبة لي، حاولت ككل المحبطين الإجابة عن سؤال الهزيمة، التي جاءت بعد ذهول ساعات إنّها هزيمة الإرادة حين تخلّينا عن مواقعنا هروبا من استحقاقات البناء..
 

وهنا كان قرار العودة، شددت الرحال من جديد لوهران لدراسة الماجستير، وبدأت التعرّف على التخصّص بشكل عصامي هذه المرة، فقد كان قسم الترجمة حينها مازال يرزخ في العفن وتجاذبات المصالح، ومع ذلك حاولت مع زملائي التموقع والبحث الحثيث في أصول الترجمة وتطبيقاتها، أنجزت رسالة في البعد البياني في الترجمة، لإيماني حينها أن الهدف من الترجمة وظيفي في المقام الأوّل، منشؤه حاجتنا الملحّة للنقل كأمّة مُتراجعة عن مسار الحضارات، وهو ما لا يكون بغير التحويل والتصرّف والتأليف في لغتنا.
 

أما النقل الحرفي فلم يكن له مكان في وعيي الترجمي بالمطلق.. كانت فترة الإنجاز وإثبات صوابية توجهي الترجمي عسيرة مع مشرف صعب المراس، احتجز العمل لأكثر من سنة لمجرّد أن يُشعرني بآلام البحث كما قال لي يوم انهرت أمامه بالبكاء من شدّة القهر، وهو الذي كما أضاف درس وتعذّب في العراق في جامعة تدين بالولاء والسلوك لصدام، تمنيت لحظتها أن أستجمع شجاعتي لأصرخ في وجهه ولهذا سقطت بغداد يا سيدي، لكني جبنت أمام جبروته ولم أنبس ببنت شفة، فقد روّضتني وجيلي سنوات الجمر والقهر في وطن يتفنّن في تجريف طموح أبنائه..
 

ناقشت الماجستير ثم سجلت في الدكتوراه بنفس جديد بعيدا عن بارونات الترجمة في جامعة وهران آنذاك، وواصلت مع الترجمة تدريسا لطلبتي بنفس النهج والرؤية، لا صوت يعلو فوق صوت المنفعة بأخذ الأصول أسيرة لخدمة الأمة وصد موجة العولمة والامبريالية، الشعارات الشمولية التي أطرت تفكيري في الترجمة، إلى أن ساقتني إكراهات المنهج نحو البحث في التوجه النقيض، الذي استكشفت فيه إيتيقا الترجمة كما لم أعهدها قبلاً، قِيم الوفاء والإخلاص للأصل، لجسديَّته وأفق مقاربته للمعنى، لقيمة الاعتراف بالآخر المختلِف، ومدِّ الجسور معه دون سلبه خصوصياته.
 

مات هولدرلين بالشيزوفرينيا كما مات بنيامين منتحرا، وأحرق أبو حيان التوحيدي قبلهما كتبه، وقضى إتيان دولي محترقا بسبب ترجمته أفلاطون.. هي شقوة كل من ترجم أو تفكَّر في الترجمة.

إيتيقا ترفع الغريب إلى مقام التقديس أحيانا حين يربطها أنطوان برمان بتصور ليفيناس للفعل الأخلاقي المتضمّن في حكمة الإغريق والعبرانيين الذين يؤمنون أن الإنسان يلتقي بالإله من خلال صورة الغريب، الغريب الذي ستتجاوز علاقتك معه عند الترجمة مجرَّد التواصل إلى الانفتاح على فضائه اللساني وأفقه المعرفي والوجودي لكن بما هو غريب.. تقيم عند حدود التماس في مقام البُعد في معجم بارمان، بُعد عن الذات وعن الآخر، ولقاء على التخوم في الوقت ذاته، هي محنة الغربة كما اجتازها هولدرلين واجترح لها الاسم من مكابدة التفكير في لغتين بنفس النَّفَس، وممارسة النقل المقدّس بينهما.. فأهدى تاريخ الآداب قطعا إغريقية خلدتها ألمانية إغريقيّة وإغريقيّة ألمانيّة لشدّة تشابههما واختلافهما تكاد تفقِد معيارية الحكم ومنطقية العقل..
 

فتستحيل مُصابا بالشيزوفرينيا كما انتهى هولدرلين نفسه لأكثر من ست وثلاثين عاما نتيجة جذرية ترجماته كما بررها مواطنه بنيامين، الذي قضى هو الآخر منتحرا في زمن السبي النازي لليهود، فيما تذكر كتب التاريخ أنه أصيب بهذا المرض بعد انفصاله عن حبيبته سوزيتة أو ديوتيما الاغريقية كما خلّدها في أشعاره، كان الانفصال مؤلما، تضاعف عندما توفيت بعيدا عنه وهو في فرنسا فرحل إلى قبرها في نورتينغن مشيا على قدميه.. هي محنة الإثنينية التي لم ترتق في مسالك الحب والترجمة إلى ثنائية وصل متوازن عند شاعر الحب والحرية والجمال، رسَّختها ترجمة الحرف في وجدانه فاستباحت عقله.. هي عندما تمارس عنفك الطبيعي على ذاتك لتقبل استضافة آخَرك أملا في التضايف يوما، فتجده يحتل كل مساحاتك، فيمنع عنك النظر ويتقلص الأفق أمامك، وتشتبك مشاعرك وأفكارك وتشتبه عليك فتستحيل الحياة السَّوية ضربا من المستحيل، فتقضي وحيدا شريدا..
 

مات هولدرلين بالشيزوفرينيا كما مات بنيامين منتحرا، وأحرق أبو حيان التوحيدي قبلهما كتبه، وقضى إتيان دولي محترقا بسبب ترجمته أفلاطون.. هي شقوة كل من ترجم أو تفكَّر في الترجمة، ولعنة ستظل تطارد كل من فكّر في التخصّص في الترجمة..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.