شعار قسم مدونات

الدوحة.. عاصمة عمرها 14 قرنا

blogs متحف الفن الإسلامي

لم أزر بلدانا كثيرة في حياتي، فقائمة أمنياتي ما زالت تمتلئ بوجهات السفر.. وعلى الرغم من ذلك إلا أن لي في السفر طقوساً خاصة، فقبل أن أوضّب حقيبتي إلى أي مكان، أحرص أن أقرأ كثيراً عن تاريخ البلد وحاضره، وأسأل الأصدقاء عن أهم معالمه وشوارعه، فأسوأ ما يفعله الزائر هو أن يعلق في الأماكن المخصصة للسياح، ويغفل عن النزول إلى الشارع والالتحام بالناس.

 

كنت على وشك أن أزور دولة قطر للمرة الأولى، وكانت الزيارة بغرض العمل والوقت الحرّ فيها ضيقاً، وبحكم أنني ولدت وعشت طفولتي في إحدى الدول الخليجية، ترددت بعض الشيء هل أسأل الأصدقاء عن معالم مميزة أزورها في الدوحة، أم أنّ سؤالاً كهذا سيبدو غريباً، خاصة أنني أخبرتهم أنني لا أبحث عن أماكن للاستجمام أو التسوق..

 

لكنّ الجواب أسعدني، فقد أوصتني أكثر من صديقة بزيارة عدة معالم بدت لي مختلفة ولن أجدها في كل مكان، وقد كان أهمّها متحف الفن الإسلامي، والحقيقة أنني بقيت أتساءل باستغراب عمّا سأراه داخل المتحف، فكلنا مأسورون للصورة النمطية في أذهاننا حول العواصم الخليجية، المرتبطة بالدرجة الأولى بحداثة نشأتها، وتحوّلها إلى رديف للترف الفج والمدنية الصرفة التي تعد نقيضاً للتاريخ والتراث الموجود في المتاحف.

 

لن تجد في متحف الفن الإسلامي مقتنيات الملوك والسلاطين والخلفاء مما غلى ثمنه وتشوّه ذوقه بشهوة حشر أكبر قدر من الذهب، بل ستتدرج في عرض روائي مشروح لأهم الإضافات الفنية والمعرفية التي أثرى بها أجدادنا وجه العالم

بعد انتهاء عملي ركبت سيارة أجرة نحو المتحف وما زلت تحت تأثير الفضول والسؤال، فور اقترابي من المكان وجدت أولى العلامات المبشّرة، فقد طالعني مشهد ساحر تندمج فيه روعة البناء مع سطوة البحر، فقد بني المتحف على جزيرة صناعية عائمة في الماء تمنح زائرها إطلالة آسرة وخلابة، وبعيداً عن جمال التصميم ومحاكاته لروح العمارة الإسلامية، وقدرته الفريدة على نقلك من صخب وسط المدينة إلى عالم من البساطة والأصالة، فإن الفلسفة التي انعكست في تفاصيل المكان ومقتنياته تعكس روحاً مختلفة عن تلك التي تجدها في العديد من المتاحف التي تزورها في حياتك، فهو لا يعرض التاريخ بفلسفة ابراز عناصر القوة والبذخ والثراء، إنما يعرض لنوع آخر من الغنى والثراء المعرفي والحضاري قلّما تجده حاضراً في روايتنا لتاريخنا الإسلامي.

 

فعلى سبيل المثال؛ لن تجد في متحف الفن الإسلامي مقتنيات الملوك والسلاطين والخلفاء مما غلى ثمنه وتشوّه ذوقه بشهوة حشر أكبر قدر من الذهب، ولن تضجر من استعراض أواني الفضة والبورسلان الصيني، أو صناديق العاج والياقوت المتخمة بالحلي والأحجار الكريمة، بل ستتدرج في عرض روائي مشروح لأهم الإضافات الفنية والمعرفية التي أثرى بها أجدادنا وجه العالم… ستطالع مثلاً كيف دمجوا الفن بالدين في مخطوطات جمالية لآيات من القرآن والتسابيح، وكيف روت ريشة الفنان قصص الأنبياء وأساطير السابقين في لوحات مصورة، ستتعرف إلى أبرز الاسهامات العلمية الإسلامية كالاسطرلابات والقُمرة، وسيدهشك أن أدواتنا الهندسية التي استخدمناها في الصغر، كانت هي ذاتها التي نحتتها أيدي علماء الهندسة المسلمين إبان القرن الثامن عشر، وسترى اهتماماً خاصاً بعلم الفلك، وآخر بعلم الإنسان والنبات في مخطوطات تشريحية مذهلة في واقعيتها ومطابقتها، وستبتسم كثيراً أمام الخرائط التي رسمها الجغرافيون للعالم قبل اكتشاف الأمريكيتين.

 

إن متحف الفن الإسلامي نموذج صغير للنشاطات التي من الممكن أن تستمتع بها في الدوحة، وتُعطيك فكرة صغيرة عن تعريف هذه العاصمة لنفسها بما هو أكبر وأرحب من الانتماء القُطري الضيّق، فهي تروي للزوار تاريخها من زاوية انتمائها العربي والإسلامي

كنت أطالع اندماج من حولي في تأمل المعروضات بسعادة غامرة، وكم شعرت بالارتياح كلما توغلت داخل المتحف وتذكرت حماس تلك الأم البريطانية وهي تشرح لأطفالها الصغار عن الاسطرلاب الذي طوّره علماء مسلمون، شعرت لأول مرة منذ فترة أننا أمة واقعها سيء لكنها ما زالت تدّخر شيئاً يستحق الفخر، وبأن خلف فكرة المتحف أشخاص يحملون رؤية سامية تتجاوز مسألة السياحة وجمع تذاكر الدخول أو ابهار أبصار الزوار بالثراء والذهب كما يفعل الكثيرون.

 

عديد من الدول تحرص على إبراز تاريخها وواقعها الذاتي والقُطري، وتتبارى بتسجيل الأرقام القياسية في علو الأبراج وعدد النجوم في المنتجعات ومرافق الترفيه، وعلى الرغم من أني أستحسن الأبراج والعمارة الحديثة ولا أتخذ موقفاً سلبياً منها؛ إلا أن الموازنة ما بين الأصيل والمعاصر أجمل وقعاً على النفس وأكثر إثراءً وتنوعاً.. ويبقى الأجمل من هذا كله، أن متحف الفن الإسلامي نموذج صغير للنشاطات التي من الممكن أن تستمتع بها في الدوحة، وتُعطيك فكرة صغيرة عن تعريف هذه العاصمة لنفسها بما هو أكبر وأرحب من الانتماء القُطري الضيّق، فهي تروي للزوار تاريخها من زاوية انتمائها العربي والإسلامي، وتندمج في تناغم جذاب مع الهويات القومية التي صاغت حضارتنا الإسلامية من عرب وفرس وترك ومغول، وتضيف بذلك لحضارتها وقوة حاضرها ميراث 14 قرناً من النهضة والازدهار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.