شعار قسم مدونات

الحُب بين سيادة الجمال وسيطرة الرّغبة

blogs الحب

توجد بعض المفاهيم التي لا يجب الانبهار بها والانخداع بما تحمله من بريق وعمق دلالي أولي، فكل المفاهيم المتعلقة بالإنسان بصفته فرد مستقل، كمفهوم العقل والحب وغيرها، لا يكفي بصددها تبني تعاريف ومقاربات جاهزة أو احتساء كل ما يدلي به الفلاسفة من شراب مختلف ألوانه، دون تذوقٍ وتطعّم يكون قوامه التفكر في الذات والاستنباط من خلال التجربة الشخصية، لن أعمل هنا على الاستئناس بأقوال وآراء الفلاسفة في الموضوع، وسأمارس حق التفلسف بكل حرية باعتباره حقا مشروعا ومضمونا للجميع بدون استثناء، مادام الفرد ينتمي لعالم الإنسان فله الحرية في بناء رؤيته الخاصة خارج نطاق التقييم والوصاية المنهجية والفكرية، ولست ملزما باتباع خط المدرسة الرومنطيقية أو الكلاسيكية أو غيرها في هذا المقام.

عند الحديث عن الحب، لابد أولا من الإشارة إلى وجود بعض العناصر والجنود داخل النفس البشرية، التي تحاول دائما القيام بأدوار بطولية داخل كل معركة والاستيلاء على الراية عبر الخداع والتلبس، كالغريزة والشهوة وغيرها، هذه العناصر لطالما عملت على نسف قيمة وسمو الحياة الإنسانية عبر الاستيطان داخل جميع المعاني والمفاهيم التي تصف السلوكيات الداخلية للإنسان، والحب في رأيي هو من بين الضحايا الأوائل لهذه المؤامرة، بما أنه أقرب مسافة إلى العاطفة والرغبة والحاجة منه إلى الروح والجمال والكمال، قرب يحكمه حضور السلوك الحيواني البشري على حساب الحضور الإنساني المتعالي. ولهذا لابد من العمل على فضح هذه المؤامرة ومحاولة تحرير مفهوم الحب من القبضة الدوابية التي تحاول تجريده من تاجه وعرشه، هذا العرش الممجد والمنزه الذي لازم الحب عبر تاريخ الفكر الانساني منذ بداية الفلسفة وما تبعها من وعي وإدراك لأسرار وخبايا النفس البشرية.
 

عدم القدرة على تجاوز الجمال الحسي إشارة على الغباوة، وملاحقة الجمال في شكل حسي لن يمكننا من رؤية الجمال الكامن في كل شيء ، كجمال المعرفة مثلا أو جمال اللغة

إن ما يجعل الحب في وقتنا الراهن وداخل مجتمعنا العربي المحافظ مجرد مدخل من مداخل الانحراف ورمزا من رموز الخطيئة، هو التأسيس الخاطئ لهذا المفهوم داخل الوجدان والضمائر، تأسيس يقوم على فهم ووعي تصاعدي، ينطلق من الأسفل نحو الأعلى، أي ينبني على قواعد وأسس الرغبة الأرضية، ليعلو صرحه في سماء الفكر والتصور متطبعا بإيحاءات ولوازم الرغبة المنحطة، عكس التأسيس السليم الذي يتم عبر فهم الموضوع واستقباله من الأعلى، عبر طريق تنازلية، تنطلق من الأعلى نحو الأسفل، وفق معايير وأحكام الجمال السامية.

 

بعد ذلك يمكن تخليقه باللمسة الأرضية في إطار تقريبه من الذات البشرية ولكن بصورة انتقائية تراعي نقاوة وصفاء البعد الجمالي.. وهذا ما يفسر بعض الأقوال والتعاريف السائدة في أوساطنا، والتي تصف هذا التصور المغلوط، تعاريف من قبيل "الحب هو أداة الفقير لممارسة الجنس مجانا"، أو لا نكاد نجد في أحسن الاحوال للحب مكانا خارج إطار الخطوبة والزواج، بل أكثر من ذلك، أيضا عند من يدعون التحرر من هذه القيود، فالحب عندهم لا يخرج عن دائرة الرغبة، الرغبة الواعية كما سماها اسبينوزا، أي الرغبة في الدفيء والحنان والحصول على أداة لتصريف الفراغ العاطفي والنفسي، وهي رغبة تتجاوز الغريزة الحيوانية إلى الحاجات الطبيعية في نفس الإنسان المتميز عن الحيوان، ولكنها لا تتعدى دائرة الحاجة غير الواعية، ولا تختلف كثيرا عن الرغبة الغريزية في جميع الأحوال. 
 

يجتمع مفهوم الجمال مع مفهوم الحب ويفترقان على عنصر المنفعة والتملّك، فإذا كان الحب سلوكا قابلا لأن يتم الاستغناء عنه وتجاوزه، فهذا يعني أن حضوره مرتبط أساسا بالنقص والميل نحو ما لا نملكه، بينما يرتبط الجمال بالكمال والسمو

إن اختياري لمفهوم الجمال مقابل مفهوم الرغبة لم يكن فعلا اعتباطيا، وقد جاء في الحديث النبوي الشريف "إن الله جميل يحب الجمال"، اجتمع لنا هنا مفهوم الحب مع مفهوم الجمال في شكل اتصال معنوي متسامي وكامل تجسده الذات الإلهية المتعالية عن المعايير والأدوات الأرضية الدنيوية، لكن الجمال في نظر الحب المرصع بالرغبة لا يمكن تصوره خارج إطار الصورة الساحرة لجسد المرأة، ولا بأس بهذا مادام سناء زهرة جسم المرأة لا يخرج عن الحقل الجمالي الذي لا تخطأه العين المحبة للجمال، ولكن عدم القدرة على تجاوز الجمال الحسي إشارة على الغباوة، وملاحقة الجمال في شكل حسي لن يمكننا من رؤية الجمال الكامن في كل شيء ، كجمال المعرفة مثلا أو جمال اللغة.. إلخ، بل هذا التفكير في مجمله لن يجعل منا محبين لجميع الأجسام الجميلة حتى، في ظل غياب القدرة على تخيل جمال واحد مجرد يجمع بين كل هذه المواضيع.

يجتمع مفهوم الجمال مع مفهوم الحب ويفترقان على عنصر المنفعة والتملّك، فإذا كان الحب سلوكا قابلا لأن يتم الاستغناء عنه وتجاوزه، فهذا يعني أن حضوره مرتبط أساسا بالنقص والميل نحو ما لا نملكه، بينما يرتبط الجمال بالكمال والسمو، وبالقدر الذي يقترب فيه الحب من المنفعة يبتعد بصورة طردية عن فضاء الجمال، فالجمال يحمل على الذوق والحكم على موضوع أو تصور برضى يسمو على كل منفعة.  ومن هنا يجب الحرص على قياس الحب واستقصاء هويته وحقيقته عبر محاكمته بأدوات الرغبة ومعايير الجمال ورصد موقعه بين الاثنين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.