شعار قسم مدونات

الـ "بت-كوين" وطفرة العِملات الإلكترونية المُعَميّة

blogs عملة البتكوين

أصبحت العملة الإلكترونية المعمية "بت-كوين" حديث الساعة بعد ارتفاع قيمتها بشكلٍ جنوني مؤخرا ليصل إلى ٢٧٠٠ دولار للوحِدة "النقدية" الواحدة بعد أن كانت لا تتجاوز ٧٥٠ دولارا في بداية ديسمبر الفائت، أي قبل شهور قليلة. ولكي نتخيل التضخم الهائل في قيمة هذه العِملة، فقد كان السنت الأمريكي الواحد يشتري ١٥ وحدة بت-كوين عند انطلاقها في بداية عام ٢٠٠٩!

يمكن لأي شخص (دون تحديد السن أو الجنسية أو البلد) أن يفتح عشرات الحسابات (عادةً ما تتم إدارتها مِن خلال ما يُسمى بـ المحفظة) وأن يقوم بشراء وبيع هذه العِملة وتداولها مِن أي مكان في الدنيا. ولا يلزم لذلك سوى وصول إلى الشبكة (الإنترنت) إما عبر الحاسوب أو الهاتف الذكي. 

منظومة بت-كوين هي عبارة عن سِجل عام (أو كما يسميه المحاسبون الماليون "دفتر أستاذ عام") يوثق جميع الحركات المالية للعملة وفي العلن. حيث تقوم سحابة تعاونية لا مركزية من الحواسيب (الخوادم) بتحقيق وتوثيق وحفظ تلك الحركات في مجموعات تُسمى الواحدة منها "مقطعا". والمقطع الواحد هو مجمل حركات التداول التي تجري خلال عشر دقائق. ولكي يُعتمد المقطع تتسابق الخوادم فيما بينها في كل مرة إلى عمل حسابات رياضية غاية في الصعوبة، تهدف إلى إنتاج بصمة (تهشيرة) ذات مواصفات خاصة.

 

كافة عمليات التداول لعملة الـ بت-كوين مُتاحة وعلنية وموثقة في السجل العام بحيث يمكن -بسهولة – معرفة القدر الذي يمتلكه أي حساب ومِن أي حسابات أتت الوحدات وإلى أي حسابات ذهبت

وعلى الرغم مِن صعوبة "اكتشافها" إلا أنه يمكن التحقق من صحة "البصمة" تلك بعملية رياضية سهلة. فيعلن الخادم الذي يتوصل إلى تلك البصمة عنها وتقوم الخوادم الأخرى بالتحقق منها، ثم يُعتمد المقطع الذي أنتجه ذلك الخادم وينال بذلك مكافأته عن جهده فيما يُسمى "بالتعدين". اعتماد المقطع يكون نهائيا فليس من الممكن بعدها -بأي شكل- تعديل حركات تداول العملة الإلكترونية ولا عكسها.

يجري إنتاج وحدات بت-كوين جديدة مِن خلال عمليات "التعدين" الإلكترونية للمقاطع حصرًا، ومعدل إنتاجها حاليا هو ١٢،٥ وحدة لكل مقطع وبلغ عدد الوحدات التي تم "تعدينها" وانتاجها حتى الآن حوالي ١٦ مليون وحدة، تُقدر قيمتها الحالية ب ٤٠ مليار دولار أمريكي. وتحدد الخورازمية الحد الأعلى من الوحدات الممكن انتاجها ب ٢١ مليون وحدة فقط ولا يمكن إنتاج أي وحدات بعدها.

وهذه الخوارزمية تمثل تقنية عالية ومُبهرة تُدعى "سلسلة المقاطع" (بلوك تشين) وذلك لأن كل مقطع يحتوي على بصمة المقطع السابق (بالإضافة إلى سرد حركات التداول). وهنالك العديد مِن العملات الإلكترونية المُعميّة غير الـ بت-كوين (تصل إلى العشرات). كما أن هنالك تطبيقات واعدة لتقنية (سلسلة المقاطع) هذه لتوثيق حركات أصول ذات قيمة حقيقية ترتبط بمالكين حقيقيين. 

إذن كافة عمليات التداول لعملة الـ بت-كوين مُتاحة وعلنية وموثقة في السجل العام بحيث يمكن -بسهولة – معرفة القدر الذي يمتلكه أي حساب ومِن أي حسابات أتت الوحدات وإلى أي حسابات ذهبت. ولكن رغم علنية هذه الحركات، إلا أن الحساب نفسه لا يتمثل سوى بسلسلة من الأرقام والأحرف (مثال 1KkpNeetcx2SNvjsHn7Be9eaknTFdRHRoL). ويطلق على الحساب أيضا اسم "عنوان" ويقترن الحساب بزوج مِن مفاتيح التعمية (فيما يُعرف بتقنية "تعمية المفتاح العام"، فمع إنشاء كل حساب يجري توليد مفتاحين ولمرة واحدة؛ أحدهما عام والآخر خاص. ولا يفك تعمية أحدهما للبيانات إلا المفتاح الآخر). ويُذكر المفتاح العام مع كل حركة تأتي للحساب، فيما يُستخدم المفتاح الخاص "للتوقيع" على كل حركة تخرج من الحساب ولا يجدر مشاركة المفتاح الخاص مع أحد مُطلقًا.

فمَن يحصل على المِفتاح الخاص يملك حق "إنفاق" العملة الإلكترونية وهو بالتالي المتصرف في الحساب. أي أن الملكية في منظومة البت-كوين عائدة لِمن عنده نسخة مِن المفتاح الخاص دون تحديد لاسمه أو أي صفة أخرى له. فإذا سُرق المفتاح الخاص أو ضاع، ضاع معه كل ما في حسابكم مِن وحدات نقدية ولا يمكن استرجاعها أبدا. 

ففي عام ٢٠١٣ فقد أحد الأشخاص ٧٥٠٠ وحدة بت-كوين لأنه قام بإعادة تهيئة وحدة التخزين على حاسوبه، والتي كانت تحتوي على النسخة الوحيدة مِن مفتاحه الخاص. تقدر قيمة تلك الوحدات التي فقدها ذلك الشخص ب ٢٠ مليون دولار (بالسعر الحالي) وبهذا تكون قد فُقدت للأبد.

تمثل العملات الإلكترونية تهديدا للمنظومة المالية العالمية الحالية، إذ لا تخضع للرقابة ولا يمكن التحكم بها. وكونها لا ترتبط بمالك حقيقي يجعلها العملة المفضلة في الأسواق السوداء

وخاصية ارتباط الحساب بمفاتيح تعمية وليس بمالكين حقيقيين تعتبر سلاحا ذو حدين، فهي من جهة تمكن الناس مِن تداول العملة بسرية تامة ومِن جهة أخرى يفقد الناس معها حق المطالبة بما يفقدوه في حال الضياع أو السرقة.

مبتكر ال بت-كوين -بالمناسبة- شخص مجهول الهوية يحمل اسم "ساتوشو ناكاموتو" يقول أنه يعيش في اليابان ويرفض بتاتا الإفصاح عن هويته. ويقول البعض أنه استرالي. يُعتقد أن ناكاموتو (مبتكر تقنية بت-كوين) يملك ما يقرب مِن مليون وِحدة، وهذا ما يُعادل مليارين ونصف المليار دولار أمريكي (بالسعر الحالي).

تمثل العملات الإلكترونية تهديدا للمنظومة المالية العالمية الحالية، إذ لا تخضع للرقابة ولا يمكن التحكم بها. وكونها لا ترتبط بمالك حقيقي يجعلها العملة المفضلة في الأسواق السوداء (المخدرات، الرقيق، الأسلحة، وغيرها) والعوالم السفلية في الشبكة العنكبوتية. وقد كانت العملة المعتمدة للدفع لدى منتجي برمجية الفدية الخبيثة التي انتشرت مؤخرا. 

ومن أهم محاذير الـ بت-كوين كونها عملة وهمية وأنّ قيمتها عائمة لا تستند على أي شيء، سوى العرض والطلب وثقة الناس بها. ولذلك فإن سعرها يتغير بسرعة؛ في يوم ترتفع القيمة فوق السحاب ثم بعدها تبدأ بالنزول. وأسباب النزول كثيرة؛ أبسطها عمليات المضاربة وجني الأرباح. ثم يتبع ذلك النزول نوبة هلع، يُهرع الناس على أثرها إلى عرض وحداتهم للبيع خوفًا مِن الخسارة فتنهار قيمتها. فهي بذلك في مهب الريح ولقمة سائغة للمضاربين الكبار لتحقيق أرباحٍ خيالية على حساب الحالمين بالأرباح. ولا تزال ذاكرتنا القريبة حافلة بفقاعات البورصات المحلية والعالمية، والتي هوت تباعًا في كثير من دول العالم وابتلعت مئات المليارات.

لا يفوتني أن أذكر أنّ كافة العملات المعومة (غير الإلكترونية) والتي تُصدرها الدول حاليا في العالم لا سند لها أيضا. لذلك لا أنصح بادخارها وأنصح بتحويلها إلى أصول ثابتة مثل الأراضي والعقارات أو سائلة (الذهب تحديدا)

على الرغم مِن انبهار الكثيرين بالعملات الإلكترونية (وخاصة في جوانبها الفنية المُحكمة والتي تعتبر بحق قفزة تقنية) إلا أن الأساسيات فيها واضحة ولا تحتمل اللبس، فلا يمكن لاقتصاد "صحي" أن يقوم على وهم ومُضاربات و "أحلام بالربح السريع بلا جهد"، ولا يختلف بذلك اقتصاد العملات الإلكترونية المُعمية عن اقتصاد البورصات عن اقتصاد التسويق الهرمي. الاقتصاد الصحي يقوم على خدمات وبضائع تحمل قيمة حقيقية ونافعة ويُبذل في تحقيقه جهد مُعتبر. 

ولا يفوتني أن أذكر أنّ كافة العملات المعومة (غير الإلكترونية) والتي تُصدرها الدول حاليا في العالم لا سند لها أيضا. لذلك لا أنصح بادخارها وأنصح بتحويلها إلى أصول ثابتة مثل الأراضي والعقارات أو سائلة (الذهب تحديدا). فالذهب هو العملة المعتمدة في النظام الاقتصادي الإسلامي. ولا شيء أفضل مما كانت جدتي (رحمها الله) تفعله من تحويل المال الذي تدخره إلى دنانيرٍ ذهبية عصملية.

 

بحكم تخصصي وعملي- استرعاني البحثُ في ال بت-كوين لفهمها والخروج بحكم حول فوائدها ومحاذيرها. وقدمت لكم هنا خُلاصة البحث الذي استغرقني عدة شهور أملا في أن يساعدكم لتحكموا عليها بأنفسكم. وتتوفر على الشبكة عشرات المصادر يمكن الوصول إليها بسهولة عبر محركات البحث.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.