شعار قسم مدونات

مثل سوريا!

مدونات - المغرب
كان يوما ربيعيا قائظا من شهر أبريل الماضي، عندما قادتني "لعنة الكتب" رفقة صديقة عزيزة إلى مدينة الدار البيضاء، التي احتضنت فعاليات المعرض الوطني للكتاب المستعمل، وذلك للبحث عن عناوين نادرة ورخيصة الثمن، تستحق مكانا في مكتبتي الصغيرة. كنا نتجول بين أجنحة المعرض الذي اختار منظموه ساحة "السراغنة" مكانا له، عندما أثارت انتباهي كتب معروضة في جناح معين، لأغلفتها البراقة وجودة طباعتها الممتازة، وتنوع عناوينها بين العلمي والأدبي والتاريخي والديني والسياسي.

كل هذا عادي وطبيعي جدا، المثير للتأمل هنا هو أن هذه العناوين (ما يقارب الـ 100 عنوان تقريبا) صادرة كلها عن الهيئة العامة للكتاب التابعة لوزارة الثقافة السورية، ومعظم هذه الإصدارات تعود لسنوات 2013، 2014، 2015 و2016، أي في عز المأساة التي ضربت بلاد الشام! صحيح أنها حرب قذرة، أتت على الأخضر واليابس، وتكالب فيها الجميع على هذه الأرض الطاهرة بغية تمزيقها، لكنني واثق من أن بلدا يكتب ويطبع وينشر رغم كل هاته الظروف، لن يهزم أبدا، وقد يخرج من هذا الجحيم أقوى مما كان..

هل تعلم بأن معظم الطلبة السوريين يتابعون دراستهم وسط القصف والقنص والموت المجاني هنا وهناك، تحذوهم رغبة عارمة في تحدي الظروف التي فرضت عليهم، فيما تواصل سياستنا التعليمية الفاشلة إنتاج أجيال من الجهلة!

تذكرت هذا المشهد وأنا أتابع مثل جميع المغاربة تطورات حراك الريف، والسجال الحاد بين وجهات نظر مختلفة تتعاطى مع ما يجري، بين من يعتبر بأن مطالب أبناء الريف ومعهم كل المغاربة مطالب واقعية ومشروعة، وأن الاحتجاج حق طبيعي على التردي الواضح في الخدمات الاجتماعية والتفشي المخيف للفساد في كل مفاصل الإدارة المغربية، وبين من يقول بأن من يحركون الاحتجاجات لهم أطماع انفصالية ويريدون تخريب البلد ودفعه إلى المجهول، دون أن ننسى تلك الفئة المعروفة التي تفضل الصمت في انتظار "ركوب أمواج" هذا الرأي أو ذاك متى ما رجحت كفة أحدهما.

لست هنا في موقع الحديث عما يجري، فقد توالت الكتابات والتحليلات منذ بداية الاحتجاجات، سواء من مثقفين أو متخصصين أو مواطنين عاديين، خاصة بعد حادثة المسجد الشهيرة واعتقال الناشط ناصر الزفزافي ومن معه، ولا أعتقد بأنني سأضيف أي جديد على ما قيل ويقال وسيقال، لكنني سأركز على عبارة واحدة طبعت كلام فئة معينة من خلال تعاطيها مع ما يجري: "واش بغيتونا نوليو بحال سوريا؟" (هل تريدون لنا مصيرا مشابها لسوريا؟)

إلى مروجي هذا الطرح، بالله عليكم ماذا تعرفون أنتم عن سوريا؟ ألم تفكروا يوما بأن هذه العبارة تسيء لنا كمغاربة ولا تضر الأشقاء في سوريا بشيء رغم كل ما أفرزته المحنة من آثار؟
هل تعلم بأن سوريا تسبقنا بخطوات واسعة على مستوى جودة التعليم، في وقت مازلنا نحن نتخبط بين المخطط الفلاني وإصلاح المخطط العلاني وإصلاح الإصلاح دون جدوى أو نتائج ملموسة على أرض الواقع؟

هل تعلم بأن سوريا فضلت الاعتماد على اللغة العربية الأم في التدريس بكل المراحل التعليمية، من الابتدائية إلى الجامعية، بغية إنتاج أجيال متعلمة واعية، فيما نواصل نحن تخبطنا بين متاهات الفرنسة والتعريب، قبل أن نفضل تبديد جهدنا وطاقاتنا في نقاش عقيم حول اعتماد اللهجة الدارجة في التعليم!
هل تعلم بأن معظم الطلبة السوريين يتابعون دراستهم وسط القصف والقنص والموت المجاني هنا وهناك، تحذوهم رغبة عارمة في تحدي الظروف التي فرضت عليهم، فيما تواصل سياستنا التعليمية الفاشلة إنتاج أجيال من الجهلة الذين يخربون مرافق الثانوية، فقط لأن الأساتذة لم يسمحوا لهم بالغش في الامتحانات؟

هل تعلم بأن سوريا بلغت مستويات متقدمة في قطاع الصحة، سواء من ناحية توفر المرافق الأساسية والمعدات الطبية، أو كفاءة العنصر البشري من أطباء وممرضين، وأن عبارة "الطبيب الفلاني متمكن من عمله ومشهود له بالكفاءة، فقد تابع دراسته في كليات الطب السورية" ما زالت تتردد إلى اليوم في المغرب رغم كل ما جرى هناك، في وقت تفارق فيه عندنا الحوامل الحياة في أقاصي الجبال، ويموت فيه المرضى المعوزون لأسباب واهية، فقط لأن المستوصف لا يضم بين جنباته سوى ممرض نصف نائم ومطهر منتهي الصلاحية، فيما يبعد أقرب مستشفى بعشرات وربما مئات الكيلومترات؟

تلقت بلاد الشام ضربة قاسية بغرقها في هذه الحرب المدمرة، لكنني رغم كل شيء متفائل بأن مستقبلها سيكون أفضل، ما دامت تملك هذه الطاقات البشرية المتعلمة والمثقفة والواعية والقادرة على إحياء سوريا.

هل تعلم بأن سوريا تعتبر بأن حضارتها هي أغلى ما تملك، فعملت على ترميم مجموعة من المآثر التاريخية، الإسلامية منها والرومانية، رغم دمارها الكلي أو الجزئي والسرقة الموصوفة لبعض نفائسها واستمرار الحرب، فيما يطوي النسيان وبعده الانهيار والاندثار عددا من المآثر المغربية الضاربة في عمق التاريخ، رغم أنها لم تصب بطلقة بندقية أو قذيفة مدفع؟

هل تعلم بأن سوريا كانت وستبقى منارة للثقافة والعلوم في المنطقة، وأن معرض دمشق الدولي للكتاب مثلا كان يستقبل عددا هائلا من الزوار كما أخبرني بذلك ناشر لبناني، عددا يفوق بكثير عدد زوار المعارض الخليجية مجتمعة، ما يعكس مستوى الثقافة والوعي والرقي الذي بلغه هؤلاء، وأيضا للسياسات التشجيعية التي توفر الكتب والمؤلفات بأثمنة مناسبة، وتنظم لقاءات دورية مع المثقفين لتقريبهم من الجمهور، فيما يواصل الأوصياء على القطاع عندنا وضع العراقيل أمام الشباب الراغب في الإبداع، وتكريس نوع هابط من الفن التافه الذي يدمر وعي أجيال متعاقبة، دون الحديث عن فئة من "أشباه المثقفين" أو المتصدرين لـ "المشهد الثقافي"، من المحتمين بأبراجهم العاجية وجلساتهم الخمرية ولياليهم الحمراء التي لا تنتج لنا سوى النصوص والأعمال الرديئة التي لا يقرأها ولا يفهمها أحد!

نعم، تلقت بلاد الشام ضربة قاسية بغرقها في هذه الحرب المدمرة، لكنني رغم كل شيء متفائل بأن مستقبلها سيكون أفضل، ما دامت تملك هذه الطاقات البشرية المتعلمة والمثقفة والواعية والقادرة على إحياء سوريا بعدما اعتقد كثيرون بأنها ماتت ودفنت، أما أصحاب عبارة "واش بغيتونا نوليو بحال سوريا؟" فأجيبهم: "نعم، نريد أن نكون مثل سوريا، وأن نصل إلى نصف أو حتى ربع ما وصله أبناء سوريا من وعي وتعليم ومستوى ثقافي متقدم، وبعدها لكل حادث حديث..".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.