شعار قسم مدونات

رمضان والقراءة والكتابة.. كان زمان(2)

blogs القراءة

كانت إذاعة رمضان في ذلك الزمن القديم من السبعينيات، حيث فترة طفولتي الأولى، ومخزن ذكرياتي الذي لا ينضب من محتوياته. ترافقنا منذ الصباح حتى المساء، ببرامج تعلمنا اللغة العربية كما أنزلت، لا كما يقترحها علينا مذيعو ومذيعات هذه الأيام الذين يرفعون المنصوب ويجرون المرفوع وينصبون المجرور وهم يبتسمون في بلاهة وإصرار غبيين، وبمسلسلات نتابعها بشغف القلب قبل بلاهة النظر، كمسلسلات هذه الأيام تحديدا، وبأناشيد وأغان دينية وأهازيج شعبية تمتاز بطلاوة الصوت وحلاوة الأداء و.. سبحة رمضان لولو ومرجان بثلاثة وثلاثين حباية، و..  قرقيعان وقرقيعان بيت قصير ورميضان عادت عليكم صيام كل سنة وكل عام!

 

وتعود علينا صيام.. كل سنة وكل عام، في أنس الشاشة الصغيرة والتي لم تكن سوى قناة واحدة تبث كل مسلسلاتها وأفلامها وبرامجها بالأسود والأبيض، وتقترح علينا مساءات جماعية تتشابه في كل بيت حيث يتحلق جميع أفراد الأسرة أمام الشاشة الصغيرة بعد الأفطار تحديدا لمتابعة أحداث المسلسل اليومي وتوقع ما تبقى من تفاصيله يوما بعد يوم، فلا فضائيات تغمرنا بألوانها الصاخبة وأصواتها الزاعقة، وتملأ ساعات الصيام والإفطار ليلا ونهارا، بمسلسلات متشابهة إلى حد الغثيان.

 

تأتينا عبر موجات متتابعة فيما يشبه الموضة التلفزيونية التي تتجدد كاتفاق بين مؤلفي ومنتجي ومخرجي وممثلي هذه المسلسلات سنويا، فنتابع هذا العام مثلا موضة المسلسلات التاريخية حيث يقرر صناع هذه المسلسلات أن يلقنونا التاريخ وقصصه وحكاياته وأحداثه وأزيائه وديكوراته وأجوائه كما يشتهون لا كما تشتهي الحقيقة مثلا، وما أن نمل أو يقرروا أننا مللنا هذا النوع من المسلسلات حتى يتحفوننا بنوع مبتكر من التاريخ المختلط في أحداثه وألوانه وأزيائه بشكل لا يمكن أن يتصوره عقل مشاهد، وحتى تنطلي تلك الكذبة التلفزيونية المعممة لا يترددون في الذهاب نحو أقصى أقاصي الكذبة المكشوفة، التي لا بد أن نصدقها عبر مسماها المبتكر، الفانتازيا.

 

تستمر الموضات التلفزيونية التي تنجح رغم اكتشافنا لكل ألاعيبها في استدراجنا نحو المتابعة المستمرة لك ما تقدمه متكئة في ذلك على كسلنا المرضي والذي لا يسمح لنا بأكثر من مشاهدة الشاشة الصغيرة تحت رعاية ذلك الكم الهائل من الإعلانات التلفزيونية

وتنتهي موضة أو موجة الفانتازيا لتبدأ موجة الطرابيش حيث تتكز كل الأحداث التاريخية في تلك الفترة التي كان جميع الرجال يرتدون فيها طرابيش ألوان العهد التركي في فترة طغيانها على الزمن العربي. ولأنها لا تعمر كثيرا، فلا تلبث هذه الموضة حتى تنتهي لتبدأ دورة جديدة من مسلسلات جديدة تحت شعار واحد قد يكون دراما العنف، أو دراما الحديث عن رجال الأعمال، أو الدراما النسائية حيث تبتتكر كل نجمة تلفزيونية بطولاتها الخارقة بما يتلاءم وصورتها المشتهاة على الشاشة الصغيرة.

 

وهكذا تستمر الموضات التلفزيونية التي تنجح رغم اكتشافنا لكل ألاعيبها في استدراجنا نحو المتابعة المستمرة لك ما تقدمه متكئة في ذلك على كسلنا المرضي والذي لا يسمح لنا بأكثر من مشاهدة الشاشة الصغيرة تحت رعاية ذلك الكم الهائل من الإعلانات التلفزيونية التي حولتنا دون أن نشعر أى حيوانات استهلاكية. وليس لنا خيار أو قرار إلا عبر جهاز التحكم الصغير أو الريموت كونترول والذي يتحكم في أذواقنا بدلا من أن نتحكم في توجهاته.

 

فمن أين نأتي بين كل هذه الانشغالات الفارغة من مضمونها بوقت نستغله للقراءة والكتابة كما كنا نفعل في السابق؟ من أين نأتي بشغف يشبه شغفنا القديم برائحة الكتب التي تلهي جوعنا بما هو خير غالبا؟ ومن أين لنا بنشاط يشبه ذلك النشاط القديم الذي يحرضنا على العمل طوال أيام الشهر بدلا من الكسل الحالي والذي نبرره بأيام الشهر؟

 

أتذكر مثلا أنني شخصيا كنت قد أنهيت قراءة كثير من أمهات الكتب الكبرى خلال الشهر الفضيل بصيغته الماضوية الأولى، فقرأت، وأنا دون الثالثة عشرة من عمري أجزاء كثيرة من كتاب ألف ليلة وليلة، وأثنين من أشهر كتب الجاحظ وهي البخلاء، والبيان والتبيين، ومقدمة ابن خلدون ومجموعة من كتب جرجي زيدان التاريخية وكتاب مروج الذهب للمسعودي بالإضافة إلى ديوان المتنبي الذي كنت أعيد قراءته كل رمضان لسبب لم أعد أتذكره تحديدا.

 

لعل أكثر ما صار يريحني في أخر رمضانيين عشتهما هو تخلصي من شعوري المتنامي بتأنيب الضمير كلما انتهى شهر دون أن أتم فيه قراءة ما خططت لقراءته، أو كتابة ما نويت كتابته قبل حلول الشهر، فقد اقتنعت، أخيرا، بالهزيمة

وأتذكر مثلا أن فترة ما بعد السحور كانت هي الفترة المناسبة جدا بالنسبة لي كي أقوم بأول تجاربي الحقيقية في الكتابة.  فقد كنت أخط وأمحو ثم أخط وأمحو إلى أن تستقيم العبارة وتكتمل الجملة، وأفرح بإطلالة القافية في آخر البيت مع آذان الفجر الأول. حيث أستعد للصلاة بعد أن أتم واجب الكتابة اليومي، ممتلئة بشعور الاكتفاء، ولذة الهواية في تكونها الأول. وكنت.. وكنت.. وكنت!

 

لكن ذلك كله، مرة أخرى، كان زمان، وكان فعل ماض تركته لأفعال حاضرة كثيرة صارت تلتهم كل الوقت الرمضاني عبادة وسهرا أمام الشاشة الصغيرة، والاكتفاء من العمل بالوظيفة الصباحية أكتب ما تتطلبه منى من كتابة، تحت وطأة الشعور بالواجب وضرورة القيام به غالبا، وأترك كتبي المؤجلة على رفوفها الصابرة في قائمة الانتظار إلى ما بعد الشهر الكريم وأيام العيد.

 

ولعل أكثر ما صار يريحني في أخر رمضانيين عشتهما هو تخلصي من شعوري المتنامي بتأنيب الضمير كلما انتهى شهر دون أن أتم فيه قراءة ما خططت لقراءته، أو كتابة ما نويت كتابته قبل حلول الشهر، فقد اقتنعت، أخيرا، بالهزيمة، واستسلمت لعوامل الزمن الجديد ووطأته على كل الحواس، وقلت في نفسي؛ رمضان والقراءة والكتابة كان زمان، وكان فعل ماض، سأتركه في حاله لعله يتركني في حالي!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.