شعار قسم مدونات

كليّة الطب.. مقبرة العباقرة

مدونات - الجامعة

إنّ القارئ ولأول وهلةٍ سيتفاجأ وحتى سينصدم بهذا العنوان الجريء الغريب الذي وإن أسقطناه على الواقع الذي يؤمن به ويقدسه المجتمع، سيكون بعيداً جداً.. فستتساءل كيف للكليّة التي يتطلب دخولها أعلى المعدلات المدرسية وأتمّها أن يُطلق عليها هذا العنوان! وماذا عن أنّ الطالب الذي ربما سيقضي حوالي ثمانِ عشرَ ساعة دراسيّة للوصول إلى مقعدٍ فيها والاستمرار بها ستكون هناك مدفنة عبقريته وإبداعه!

مهلاً لا تتعجل بأحكامك، ودعني أشرح لك كل شيءٍ.. هذا العنوان مُستوحى من قصة صغيرةٍ سمعتها كثيراً، وسأقصّها باختصارٍ لك لعلّك تدرك سبب اختياري لهذا العنوان المثير:
يُحكى أن دكتوراً جامعيّاً في علم التشريح دخل إلى طلاب الطب الذي يدرّسهم وقال لهم في أوّل يوم دراسيّ: هذه الكليّة هي مدفن العباقرة.. بدت ملامح الحيرة، التعجّب والصدمة بكلامِ الدكتور، وخيّم صمتٌ طويلٌ حينها ساده أعينٌ جاحظةٌ مفتوحةٌ تترقب بلهفةٍ إكمال الدكتور كلامه، ثم أردف قائلاً: توقعت علامات الاستفهام هذه منكم، ولكن دعوني أسألكم سؤالاً ومن إجابته ستتأكدون من صحة كلامي..

كم من شخصٍ دخل هذه الكليّة دون رغبته، وبقي بها عشرات السنين دون أن يتخرّج لأن نفسه لم تتقبل ذلك؟ كم من مرضى يموتون بأخطاء أطبّاءٍ دخلوا هذا الفرع دون حبٍّهم له وتخرجوا فما فهموا وأتقنوا كل شيء؟

قال لهم: كم بينكم من محب للهندسة والرياضيات ومبدعٍ بها، وكم من رسّام يعشق الفن والرسم وعنده قدرةٍ لمواكبة الفنانين العالميين، وكم من مهتمٍّ للفيزياء وعبقريّ بها وكم من عاشق للشعر والأدب وكم وكم.. وكم منكم من مُحبٍّ لفرع لو دخله لأبدع به وكان في مجاله من الأوائل المتميزين في هذا الكون، كم منكم من تخلّى عن حبه لهذا المجال ودفنهُ في صدره ليرضي ويلبي رغبةَ مجتمعه بفرعِ الطب أو لأنه أحرز هذه العلامة التي تؤهله لدخول هذا المكان العظيم بعين الجميع.. نعم، كم منكم من أُجبر على دخوله وهو يُبدع وينجح بفرع ٍ وعلمٍ آخر.. صدقوني إنهّا مدفنة العباقرة.

إذاً قد علمنا الآن السبب الحقيقي في هذه التسمية، وتوضحت لنا أسبابها وتعقيباً على هذا أيضاً وقبل بدء الحديث يجدر بنا أن ننوه بكلِّ شفافيّةٍ أن الطب هو أكثر المهن والعلوم إنسانيّةً وأكثر ما يرفع عن الناس أوجاعهم في الحياة وأهميته عظمى بالنسبة لنا ولكن يجب أن نفرّق بين أهميته وحاجتنا له، وبين من يستطيع أو يحبّ الدخول عليه.

وهذه المقالة لا تُنقصُ أو تقلل من أهميّة وتفاني طلبة الطب الذين يتعبون ويتألمون لكي يزيلوا الألم عن غيرهم.. وبرأي وقناعتي على العكس تماما فإنها توجه لهذه المهنةِ من يستحقها فعلاً ومن يحب دوماً في كل لحظةٍ أن يكون بلسماً ولو تعب طوال حياته، وإننا بنقدنا هذا نعالج قضيّةٍ مغلوطة فقط ونحاول تصحيح المفاهيم لا أكثر..

فكّروا معي قليلاً.. لو دخل كلّ طالبٍ الفرعَ الذي يهواهُ ويريدهُ كم سينتج للعالم من عباقرةٍ ومبدعين ما كانوا ليُدفنوا تحت وهم الشهرة والمادة؟ لو لم يٌجبر الطالب ذو العلامة التامّة على دخول الطب من قبل الأهل والمجتمع والأقارب وتلبية لنداءِ نفسهِ بأنّ كلمة طبيبٍ فقط تعني كل شيء في هذه الحياة، وأنه سيُحترم من الناس فقط لأن قبل اسمه حرف الدال ذاك أو أنّ كل أموره ستكون بخيرٍ من وضعه المادي إلى تلك التي لن ترفضه فقط لأنه طبيب!

تعظيم كلية الطب خصوصاً وبشكل كبير والهندسة والكليات العلمية بصفة عامة، وتفضيلها على العلوم الإنسانية واللسانية فضلا عن الشرعية هي مرض مجتمعي ونقصٌ ليس إلا.

لو لم يحدث كل هذا فإن مكانهُ سيكون في المكان الذي سيبدعُ به ليتفوّق دائما وليزهرَ ويثمرَ إبداعاً لنا دوما.. كم من شخصٍ دخل هذه الكليّة دون رغبته، وبقي بها عشرات السنين دون أن يتخرّج لأن نفسه لم تتقبل ذلك؟ كم من مرضى يموتون بأخطاء أطبّاءٍ دخلوا هذا الفرع دون حبٍّهم له وتخرجوا فما فهموا وأتقنوا كل شيء؟

وماذا عمّن يمتلكون الأموال ويستطيعون إدخال أبنائهم هذا الفرع بمالهم فقط دون حاجة قدرات أولادهم العلميّة ليفتخروا بهم فقط، ويكونون قد سحبوا الفرصة وضيّعوها عمن يستحقها ولا يمتلك ذلك وضيّعوا رغبات وأهداف أولادهم! وهنا ولو صحّحنا مفاهيم المجتمع المغلوطة لحُلّ الأمر بسهولةٍ فلو أدركنا أن تعظيم كلية الطب خصوصاً وبشكل كبير والهندسة والكليات العلمية بصفة عامة، وتفضيلها على العلوم الإنسانية واللسانية فضلا عن الشرعية هي مرض مجتمعي ونقصٌ ليس إلا، والناس مواهب وما يصلح لشخص لا يلزم أن يصلح لغيره، وتقييم الشخص بشهادته وكليته تساوي خطأ وجهل فادح، لكان الجميع أدرك أن مكانه حيثما يهوى..
المجتمع بحاجة للجميع وكل وموهبته التي يمتلكها..
لبّ المشكلة وعلاجها في أن تكن ما تريد أنت..
أن يكون الشخص المناسب في الفرع المناسب..

يا صديق:
ادخل التخصص الذي تحبّ وتريده لشخصك أنت لانك أنت تريدهُ ويناسب قدراتك، ليس من أجلِ شخصٍ معيّن أو فئةٍ معينه من الناس أو تقليداً لغيرك دون معرفه قدرتك به وأين تكمن نقاط موهبتك، لأنك ببساطه ستخسر نفسك في النهايه إن لم تفلح به..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.