شعار قسم مدونات

العمر ليس مجرد رقم

مدونات- تضيع العمر
أعتقد أننا كلنا في مرحلة ما نتبنى ثل هذه المقولات أو نعتقد بأن فيها شيء من الصحّة، العمر ليس مجرد رقم، الشباب شباب الروح، هناك في الحياة متسع لكل شيء، العمر طويل قدامك، استمتع بحياتك فنحن نعيش مرة واحدة وإلى آخر ذلك.. والحقيقة أن العمر ليس مجرد رقم، والشباب ليس شباب الروح فقط، وليس في الحياة متسع لكل شيء، ونحن لا نعيش مرة واحدة.. الحقيقة أن العمر عندما يمضي يأخذ معه من صحتنا وقوتنا، وأن الروح مهما كانت شابة ستثقلها الحياة وتجاربها، والحياة ضيقة جداً وقصيرة جداً وبالكاد تكفي الأساسيات..

نحن للأسف نعيش ثقافة تمجيد الاستثناء والحياة في الأحلام، ومتابعة الحالات الفريدة. نعم من الممكن أن تكون حياة البعض أفضل عندما يكبرون، من الممكن أن تجد من يحافظ على صحته بقدر يتفوق فيه على الكثير من الشباب، من الممكن أن يوجد بيننا القادرون على فعل كل ذلك.. ولكن ليس هذا هو الغالب الأعم، وأكثرنا أضعف من أن يأتي بكل هذا، بل الواقعي أن لا نسعى لشباب لا ينضب، ومتعة لا تنفذ، ولا مبالاة لا تنتهي..

ليست الفكرة في أن نشعر بالعار لأننا نكبر ونحاول أن نعيد الزمن إلى الوراء بكل السبل، سواءً شكلاً أو سلوكاً.. لكن ما ينبغي أن نقلق بسببه هو ما الذي فعلناه في أعمارنا هذه؟

أذكر أنني عندما بدأت المرحلة الجامعية كنت أخطط للحصول على درجة الدكتوراه قبل أن أتم الخامسة والعشرين، وكان ذلك ممكناً لولا غباء الأنظمة التعليمية وتأخير قبولي في الجامعة التي قدمت لها بسبب البيروقراطية العقيمة حتى ألغيت الفكرة وأجلتها لحين توفر ظروف أفضل. كنت أريد أن أنتهي من هذه الخطوة في أقرب فرصة لأنني أعرف أنها تشغل حيزاً من عمري ومن الوقت المتاح لدي، وبها يمكنني أن أفتح أبواب أخرى تعينني على الإنجاز في جوانب مختلفة.. كنت واعية بأن العمر يسرق، وأردت بشدة أن أهزمه..

شاء الله أن أبدأ الدكتوراه وأنا في الثامنة والعشرين في ظروف مختلفة تماماً وفق الله سعيها.. بدأتها بعد أن أنجبت طفلة وكنت حاملاً في أخرى، وبعد زواج وسفر وعمل عام وقراءات وتجارب غيرت في الكثير، وأوصلتني إلى نتيجة لم أكن لأحلم بها من وضوح الرؤية وتقدير الأمور حق قدرها. ولكنني في كل ذلك مازلت أسابق الزمن.. أسابقه حتى أحسن تربية بناتي، وحتى أحسن رفقة زوجي، وحتى أقدم على الإنجاز قد الاستطاعة، أتلقى فرص العمل بيدين مفتوحتين، لأنني لا أعرف أيها سيفتح لي الأبواب يوم الحساب.. أسابق الزمن بمزاحمته بكثرة الأشغال، وكثرة الأفكار، فتتضاعف الأعوام..

منذ فترة وأنا أتفكر في آية محددة من القرآن الكريم وأقلبها في ذهني تتعلق بالعمر تحديداً، وهي قوله تعالى: "حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ"، وهي الموضع الوحيد تقريباً في القرآن الذي يحدد عملاً ما بسن محدد، وهو بلوغ الأربعين، وقد سمعت بعض المفسرين يربطونها بقوله تعالى: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ". فقالوا هي مراحل حياة الإنسان، ينتقل من اللعب إلى اللهو إلى زينة ثم التفاخر والتكاثر.. الطفولة فالمراهقة فالشباب.. حتى إذا بلغ المرء الأربعين وصل السن التي يجد فيها رشده ويدرك فيها قيمة نعم الله عليه فيكون هو عمر شكر النعم.. بأن يبر والديه بعد أن أدرك كم تعبا في إنجابه ورعايته وهو الآن يتعب ويكدح في رعاية أبنائه، ويشكر الله على الاستقرار المادي بأن يكرم الفقراء والمحتاجين، ويجبر خواطر الناس بحسن المعشر.. وهكذا..

أعتقد أنه من المهم أن نضع أمامنا فكرة التسلسل الزمني، وأن نحسب حساباً للعمر الذي يمضي لأن الكلام عن أن العمر مجرد رقم ليس واقعياً ولا حقيقياً.. وليست الفكرة في أن نشعر بالعار لأننا نكبر ونحاول أن نعيد الزمن إلى الوراء بكل السبل، سواءً شكلاً أو سلوكاً.. لكن ما ينبغي أن نقلق بسببه هو ما الذي فعلناه في أعمارنا هذه؟ للأسف هذا الجيل عاش ظروفاً وأحداثاً تدعو للتساؤل عن جدوى كل شيء، وتجعل من السهل أن يجلس الأمر متفرجاً، ولكن لعل هذا هو صراعنا، أن نقاوم الحياة على الهامش، أن نقدر العمر حق قدره وأن لا نفقد إيماننا بأثر كل ثانية تمر في أعمارنا.

التجارب هي التي تصنع الإنسان، والتجارب تستغرق الوقت والجهد، لا نكتسبها ونحن منشغلون بالأنشطة الاجتماعية والرحلات والحفلات والتبضع والتباهي والتماهي.. التجربة يجب أن تستغرق جزءاً من نفسك حتى تؤثر على نضجك وحكمتك.

هناك أهل يكررون على أبنائهم وبناتهم في مراحل الشباب الأولى والمراهقة المتأخرة عبارات مثل: "إنت لسه صغير حتشيل الهم بدري ليش؟" وأمهات يأخرن نضج أبنائهن وبناتهن بالتدخل في كل صغيرة وكبيرة وعدم السماح لهم بارتكاب الأخطاء، وأباء ينتجون أفراد يعانون في المستقبل لأنهم لم يتعلموا أهمية الاستقلال المادي ولم يجربوا تعب الكسب وبذل الجهد.. والمحصلة؟ جيل متأخر النضج.. إن وضعنا في اعتبارنا أن الآية ترشدنا إلى جدول زمني تنظيمي، قد يكون له استثناءات، لكنه الخط العام، فنحن عندها أمام امتحان في مدى قدرتنا على النضج والوصول إلى مرحلة الأشدّ والرشد التي تسمح لنا بأداء واجبات الأربعين.

أنا لست مع من يقول بأن الحياة قد تبدأ في الأربعين والخمسين وخلاف ذلك.. لا الحياة تبدأ مع اليوم الذي ولدنا فيه.. وسنحاسب على كل يوم نقضيه في اللهو واللعب والزينة والتفاخر في غير موضعها وغير المرحلة العمرية التي تقع فيها.. ولو تأملنا في سن البلوغ والتكليف لودنا فيه علامة أخرى تهدينا الطريق.. فأنت ما أن تصبح مكلفاً مسؤولاً أمام الله لا يعود من الطبيعي أن تفكر في حياتك بترف الطفل الذي يلهو.. وعلى الأهل أن يراعوا هذا في تربية الأبناء.. ليس من الطبيعي أن نكون في الأربعين وما نزال تائهين، مازلنا نريد أن "نعيش الحياة" مازلنا نبحث عن المتع والملهيات، نبحث عن إرضاء الرغبات.. ولا نفكر حتى في شكر النعم.. ليس من الصحي لأي مجتمع أن يكون فيه مراهقون في الثلاثين مشوشون، غير مستقرين، غير مستقلين.. ليس من الطبيعي أن نحول كل هذا إلى مجرد "اختيارات شخصية"، إلى حالة أصبح كل شيء فيها عادي ومقبول، كل شيء سائلاً..

ليس كلامي بأي شكل من الأشكال مبرراً لأن نعاير الناس بأعمارهم أو غير ذلك، كما سيعلق البعض، ولكنه في نفس الوقت اعتراض على حالة اللامبالاة التي نعيشها.. الفردية القاحلة.. والنظرة التي تنسى في كل لحظة أننا نعيش حياة من اثنتين.. لا حياة واحدة كما يقولون.. تعتمد الأخرى على الأولى.. وليس في الأولى من متسع لتضييع كل هذا الوقت في مجرد أن "نعيش حياتنا"..، التجارب هي التي تصنع الإنسان، والتجارب تستغرق الوقت والجهد، لا نكتسبها ونحن منشغلون بالأنشطة الاجتماعية والرحلات والحفلات والتبضع والتباهي والتماهي.. التجربة يجب أن تستغرق جزءاً من نفسك حتى تؤثر على نضجك وحكمتك.. أو كما نعبر عنها بالعربية، على الحياة أن تعرُكك.. فلا تتساهل ولا تتخاذل ولا تتباطأ.. وأقبل عليها إقبالاً صحيحاً.. إقبال المتحكم فيها.. لا المسلم لها.. ولنتذكر أن السعادة والمتعة والراحة وسيلة تعيننا على صعاب الحياة وليست غاية..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.