شعار قسم مدونات

اللاعبون بالدين

blogs شيوخ

تكشف البيانات الصادرة عن مؤسسات دينية بخصوص محاصرة قطر، عن المأزق الحقيقي الذي تعاني منه تلك المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية فيما يخص فهمَها للدين، ووعيَها بحدود دورها ووظائفها، ومدى تبعيتها للأنظمة الحاكمة التي تتحكم بها وبمُخرجاتها. ففي واقعة الحصار المفروض من قبل الإمارات والسعودية أصالةً، ومصر والبحرين وجيبوتي وجزء من اليمن وجزء من ليبيا تبَعًا، سارعت مؤسسات دينية إلى إصدار بيانات تؤيد الحصار وتورد مسوغات "دينية" لشَرعنته.

 

كشفت الثورات العربية عن انقسام حادّ بين معسكرين من العلماء والدعاة: معسكر يؤيد الأنظمة وآخر يؤيد الاحتجاجات السلمية غلَب عليه تيار الإخوان المسلمين، في حين أن السلفيين انقسموا بين ثلاث فئات: فئة تطيع ولي الأمر، وفئة آلت إلى السلفية الجهادية، وفئة انخرطت في الثورات.

 

وقد مارس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين برئاسة الشيخ يوسف القرضاوي دورًا محوريًّا في دعم الثورات عبر البيانات وتوفير الشرعية الدينية للمتظاهرين في مواجهة خطاب مؤسسات الأنظمة ومشايخها. غير أن مشايخ ودعاة الأنظمة مُنُوا بهزيمة كبيرة مع سقوط مبارك، فمع الانتقال من زمن مبارك إلى زمن ثورة يناير ارتبك خطاب بعضهم حتى وقع في تناقضات عديدة (كما هو الحال مع علي جمعة مفتي مصر السابق وأحمد الطيب شيخ الأزهر الحالي).

 

قدمت سوريا نموذجًا مغايرًا؛ فقد قام نظام الأسد بمواجهة الخطاب الثوري الديني للاتحاد وشيخه القرضاوي بخطاب مقابل عبر د. محمد سعيد رمضان البوطي والهيئة التي أنشأها نظام الأسد تحت مسمى "رابطة علماء بلاد الشام" برئاسة البوطي الأب ثم البوطي الابن بعد اغتيال الأب.

 

نشأ حلف الثورة المضادة بزعامة الإمارات التي أدركت أهمية الخطاب الديني في الثورة، فبعد الانقلاب على مصر أنشأت الإمارات منتدى تعزيز السلم (2014) برئاسة الشيخ عبد الله بن بيه الذي كان نائبًا لرئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين واستقال قُبيل الانقلاب على مصر، وكان قد صرح غير مرة أنه لا يؤيد الثورات العربية، ثم أنشأت مجلسَ حكماء المسلمين (2015) وقد تنافس على رئاسته أحمد الطيب وعبد الله بن بيه إلا أن الرئاسة آلت إلى شيخ الأزهر في نهاية الأمر، وهو ما أوجد وحدة حال وتداخلاً بين الأزهر كمؤسسة ومجلس الحكماء، خصوصًا مع التبعية السياسية المصرية للإمارات.

 

والمتتبع لنشاط المؤسستين الدينيتين يلحظ بوضوح أنهما تعملان على تجاوز نطاق عمل المؤسسة الدينية الرسمية القُطْرية إلى عمل إقليمي ودولي، لمواجهة نشاط الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وخطابه الاحتجاجي المحسوب على قطَر، ولهذا ثمة حرص إماراتي على تقويض الاتحاد عبر وضع رئيسه على لائحة الإرهاب واتهام قطر بدعم الإرهاب، في مقابل تسويق نفسها على أنها راعية "السلم" و"الحكمة"، فقد سعت بالدفع ببن بيه إلى خطاب في الأمم المتحدة (2015) الذي أعلن فيه أن السلم مقدم على العدل، وسوّق لنشاط منتدى السلم الذي يسعى – بزعمه – إلى "إطفاء الحرائق"، ونبّه إلى أن مقره أبو ظبي، ما يساهم في رسم صورة محددة لأبو ظبي كحمامة سلام في المنطقة بالتوازي مع العمل الدؤوب الذي كان يقوم به سفير الإمارات في واشنطن لرسم صورة لقطر بأنها داعمة للإرهاب.

 

لم يَظهر البعدُ السياسيُّ لهذه التشكيلات والتحالفات الدينية- السياسية بشكل مباشر وفج قبل حصار قطر، وهو بُعدٌ خادمُ لسياسة الثورة المضادة، فحصار  قطر أظهر الدور الوظيفي الذي أُنشئت لأجله هذه المؤسسات العابرة لحدود الدولة القومية، ولهذا لم يكن غريبًا أن تنبري مؤسسة الأزهر إلى إصدار بيان سياسي يدعم حصار قطر، وأن يفعل الشيءَ نفسَه منتدى السلم الذي لم يسبق له أن اهتم بإصدار أي بيان أو موقف بخصوص الحرائق المشتعلة في سوريا وليبيا واليمن والعراق غيرها. وقد انضم إلى هؤلاء رابطة العالم الإسلامي السعودية، ومفتي المملكة السعودية.

 

وبتأمل البيانات الصادرة يمكن إدراك الآتي:

 

نهجت رابطة العالم الإسلامي نهجًا مغايرًا من خلال تزكية الدول التي قطعت علاقاتها مع قطر بأنها "معروفة بتاريخها الحافل في رعاية الجوار والأخوة والصداقة والاعتدال والسلم".

أولاً: أنها تنتمي إلى الدول التي اتخذت قرار الحصار، وهو قرار إماراتي سعودي، وهي بيانات تكشف – بوضوح – عن تَبَنٍّ صريح للرواية الرسمية للدول المحاصِرة، فمفتي السعودية يصرح بأن القرار ضد قطر هو "بسبب تمويلها الإرهاب"، ومنتدى السلم علَّل قرار  الحصار بـ"تمزيق الصف العربي، والخروج عن البيت الخليجي والإساءة إلى سماحة الإسلام بدعم الجماعات الإرهابية، وإثارة القلاقل في البلدان الآمنة وإذكاء الصراعات الطائفية"، ورابطة العالم الإسلامي قالت: إن "الإجراء جاء وفق المقتضى الشرعي والقانوني والمنطقي تجاه الممارسات التي تستهدف أمن واستقرار الدول من خلال إيواء ودعم المنظمات والجماعات الإرهابية"، والأزهر  علل القرار "بدعم الإرهاب وإيواء كيانات العنف وجماعات التطرف، والتدخل بشكل سافر في شؤون الدول المجاورة واستقرارها وأمن شعوبها"، أي أن الروح التي تسري في هذه البيانات صدرت من مصدر واحد وهو ما صاغته الإمارات والسعودية، من دون مساءلة مصادر القرار أو البحث عن الحجج والسياقات، بل من دون تعريف واضح ومحدد للإرهاب نفسه!

 

ثانيًا: أن البيانات تدّعي تمثيل "الجماعة"، سواءٌ كانت جماعةً مسلمة أم عربية وأن مخالفيها خارجون على الجماعة، وهو منطق الجماعات التكفيرية والجهادية، ومنطق الخوارج قديمًا، فبيان الأزهر يخلط بين الجماعة المسلمة والجماعة العربية ويُخْرج قطر من الجماعتين، فقد استدل بيان الأزهر بحديث النبي صلى الله عليه وسلم "عليكم بالجماعة ومن شذَّ عنها شذَّ إلى النار"، وأكد "تأييده ودعمه للموقف العربي المشترك في قراره بمقاطعة الأنظمة التي تقوم بدعم الإرهاب" رغم أنه لا يوجد موقف عربي مشترك أصلاً، أما منتدى السلم فقد ادعى أن قرار الحصار جاء "من قبل دول مجلس التعاون وعدد من الدول العربية والإسلامية" ودعا قطر إلى العودة "إلى الصف العربي والإسلامي" رغم أن نصف مجلس التعاون هو خارج هذا القرار فضلاً عن أنه لا وجود لمثل هذا "الصف العربي والإسلامي"!

 

وقد نهجت رابطة العالم الإسلامي نهجًا مغايرًا من خلال تزكية الدول التي قطعت علاقاتها مع قطر  بأنها "معروفة بتاريخها الحافل في رعاية الجوار والأخوة والصداقة والاعتدال والسلم"، أي أن البيان يسعى إلى تبرير قرار الحصار عبر دفع التهمة عن النفس وتنزيهها. أما مفتي السعودية فقد نزه السعودية بأنها "بلد إسلامي مستقيم، وممولة للخير أينما وجد"، أي أنه لا يمكن أن يصدر عنها ما يخالف شرع الله، وبناء عليه دعا "جماعة الإخوان المسلمين إلى البعد عن العصبية والغلو، واتباع كتاب الله وسنة نبيه"، بما أن السعودية تمثل المرجعية الإسلامية والجادة!

 

تتجاهل هذه البيانات تمامًا أن قرار الحصار قرار ضيق وهامشي بالنظر لعموم الدول الإسلامية والعربية، فضلاً عن المجتمع الدولي، وهي بيانات تجعل من سياسات دول محدودة وهامشية ممثلاً لجماعة المسلمين أو للجماعة العربية، وتُخرج قطر من دائرتها، ولكنها تسكت تمامًا عن حكم الدول التي لم تستجب لقرار المقاطعة، وهل هي على الأعراف أم خارج جماعة المسلمين أيضًا؟!

 

ثالثًا: تسوغ البيانات الدينية حصار قطر (شرعًا) بذرائع عدة، فمفتي السعودية وصَّف الحصار بأنه "أمور إجرائية فيها مصلحة للمسلمين ومنفعة لمستقبل القطريين أنفسهم"، وهي "مبنية على الحكمة والبصيرة وفيها فائدة للجميع"، ومنتدى السلم وصّفه بأنه "إجراءات علاجية لدرء المفاسد الناجمة عن تصرفات الحكومة القطرية الرامية إلى تقويض أسس الاستقرار والأمن في المنطقة"، ورابطة العالم الإسلامي رأت أن قرار الحصار "يهدف إلى إيجاد الضمانات اللازمة لحفظ أمنها واستقرارها ودحر عاديات الشر عنها". وهي توصيفات سياسية تشكل ذرائع هشة ووصائية لبيانات يُفتَرض بها أنها تصرح بحكم شرعيّ! وهي تستعمل المنافع والمفاسد بشكل غامض ومبهم لا صلة له بطرائق الفقهاء وعملهم، وبناءً على "حسن الظن" بالحكام والدول صاحبة القرار من دون الاستناد إلى معطيات علمية أو واقعية!

 

إذا كانت منظمات حقوق الإنسان قد تعاملت مع الآثار والنتائج الناجمة عن القرار وهو ما من شأنه أن ينفي عن القرار الصفة الأخلاقية؛ بالنظر لنتائجه ومآلاته، فإن خطاب الحصار جاء مبهمًا وعاريًا

تكشف هذه البيانات عن غياب فاجع للمسألة الأخلاقية عن خطاب مؤسسات يُفتَرض بها أن تبلغ رسالات الله التي هي ذات مضمون أخلاقي وديني أصالةً، ولكنها تخلت عن كل ذلك لِلَّعب بالدين في صراعات دول على مواطن النفوذ ومصالح الأنظمة، أي أن الدين تَحَول في خطاب المؤسسات الرسمية وشبهها إلى مجرد أداة في الصراع السياسي وتوقف عن أن يكون خطابًا جامعًا يتعالى على السياسي والوطني الضيق، وقد ترك مشايخ الأنظمة وظيفتهم التاريخية في الوساطة بين الشعب والحكام، ليلتحقوا بركب الحكام ضد الشعوب على طول الخط!

 

في المقابل نجد أن جزءًا من المسؤولية الأخلاقية اضطلعت به منظمات حقوق الإنسان (العلمانية) كمنظمة العفو الدولية والمرصد الأورومتوسطي وغيرهما، فقد انصب خطابها على قضايا إنسانية وأخلاقية محددة، منها: أن الإجراءات التي تم اتخاذها مبهمة وغير كافية ولا تعالج الوضع الحقوقي والإنساني الناجم عن الحصار، وتأثير القرار على تشتيت مئات العائلات وأنه يمس بحقوق المقيمين أيضًا، والانتهاكات التي نجمت عن التنفيذ المفاجئ لقرار الحصار، وأن تجريم إظهار التعاطــف مــع دولة قطر يمثل خرقًا للحق في الرأي والتعبير، وأن القرار انتهاك للمواثيق الدولية ولميثاق مجلس التعاون الخليجي الذي يدعو إلى حسن الجوار وتمتين العلاقات بين دول الخليج.

 

وإذا كانت منظمات حقوق الإنسان قد تعاملت مع الآثار والنتائج الناجمة عن القرار وهو ما من شأنه أن ينفي عن القرار الصفة الأخلاقية؛ بالنظر لنتائجه ومآلاته، فإن خطاب الحصار جاء مبهمًا وعاريًا؛ فهو لم يُفلح في توفير القشرة الأخلاقية اللازمة للقرار، وبهذا تسجل المؤسسات الدينية السابقة وشخصيات دعوية بارزة مثل السديس وعدنان إبراهيم وعمرو خالد وآخرون فشلاً أخلاقيًّا ذريعًا، وتؤكد مجددًا أن خطاب "مقاصد الشريعة" التي تدور حول "مصالح الإنسان" وجلب المصالح ودرء المفاسد يمكن أن توظَّف لسحق الإنسان وسلبه حقوقه كما هو الحال مع هذه المؤسسات خصوصًا أن فيها من يتمسح بخطاب المقاصد كبن بيه، ولله الأمر من قبل ومن بعد!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.