شعار قسم مدونات

الثانوية العامة.. بداية الفشل

BLOGS- الامتحان

لماذا؟ نحفظ الشعر ولا نتذوقه، ندرس القرآن ولا نتدبره، نتعلم الفن ونبتذله، نجيد تعريف الوفاء ونبدع في الخيانة، نسرد الحقيقة وداخلنا مليء بالزيف، نكتب عن الشرف وتصرفاتنا مثخنة بالقذارة، نقرأ عن الصدق ونتفنن بالكذب، نعد ولا نفي، نقول ولا نفعل، نرى ولا نُبصر، ثم يمتلئ العالم بأناس لديهم ما يتحدثون به لكنهم أعجز من تطبيقه، أو بهؤلاء الذين "يقولون ما لا يفعلون"، وبعد كل ذلك نبدأ بالبحث عن أسباب فشل المجتمع وعدم ازدهاره. في هذا المقال لديّ إجابة ربما ليست شافية لكنها حقيقية جدا.

 

معظم الطلاب لا يعرفون ماذا يريدون، وتكون العلامة كل همهم، لذلك لا تستغرب حين ترى المدارس والجامعات مليئة بطلاب هدفهم فقط التخرج دون رسوب، وفي النهاية وحده المجتمع من يدفع الثمن، حين يتخرج طبيب كل همه أن ينعته الآخرين بلقب "دكتور" ثم يرتكب الأخطاء الطبية ويعرض حياة الناس للخطر، ومهندس لا يجيد الرسم إلا على الورق، ثم تنهار بناياته ويموت الكثير من الأبرياء عند حدوث هزة أرضية بسيطة، ومحامٍ يتاجر بحقوق المظلومين، وقاضٍ ضميره غائب عن العدل ومتصل بالسلطة ومنفصل عن الحق، وصحافي يعرض قلمه للبيع ويضلل به الرأي العام ويتلون كالحرباء في المكان الذي يجد فيه شهرته ويبيع قناعته بثمن بخس، وشرطي لا يبصق "لا" في وجه كل من يأمره بتوجيه بندقيته إلى صدر أبناء وطنه لا في رأس عدوه، ويتسبب في دمار بلده وغرقها بالحروب الأهلية، ومدير يسرق المال العام، ومعلم فاشل يُلقن طلابه المعلومات ولا يمنحهم الثقافة وينتج مثل هذه الكوارث البشرية، وبعد كل هذا نسأل لماذا؟

 

لأن المدارس والمناهج والجامعات لا تعلمنا الشرف والأمانة والوفاء والصدق والأخلاق والوطنية، لكننا نستطيع أن نتعلم ذلك من سلوك أساتذتنا وتصرفاتهم التي تغرس فيناهذه القيم دون أن نشعر. من غير المنطق والمعقول أن تُحدد نتيجة الثانوية العامة مستقبل الطلاب بناءً على نجاحهم أو فشلهم فيها، فالمعظم يختارون تخصصاتهم الجامعية وفقا للعلامات التي يحصلون عليها وليس وفقا لرغباتهم وقناعاتهم أو ما يبدعون به.

 

مع الأسف، في المجتمعات العربية يتم تقييم الطالب إن كان ناجحا أم فاشلا من خلال المعدل الذي يحصل عليه في الثانوية العامة، بل ربما يذهب البعض لتحديد نسبة ذكائه بحسب الفرع الذي يختاره، فطالب الفرع العلمي ذكي، وطالب الفرع الأدبي يحفظ دون أن يفهم، وهكذا.

 

قصدي بأن الثانوية العامة أو "التوجيهي" بداية الفشل لا يعني عدم أهمية وجود نظام تعليمي يُلزم الطالب بالدراسة قبل التحاقه بالجامعة، بل يبدأ الفشل بسبب جعل الثانوية العامة محورا ومعيارا لنجاحه أو فشله في الحياة، وخلق رهبة ورعب منها، والمسؤول في ذلك هو النظام التعليمي والمجتمع.

 

نبدأ من النظام التعليمي الذي يُجبر الطالبعلى تكرار ذات المعلومات خلال سنة كاملة، ولا يمكن أن يمنحه أفقا لمعرفة التخصص الذي يناسبه، ومن المستحيل قياس مستوى ذكائه عن طريقه، فخلال سنة كاملة يجتهد الطالب في الدراسة، وفي وقت الامتحان قد يحصل معه ظرف أو مرض أو مشكلة تُفقده التركيز ويحصل على علامة متدنية تحرمه من دخول التخصص الذي يرغبه، وهذا هو السبب الذي جعلني أقول لكم إن الثانوية العامة هي بداية الفشل، لأن اختياراتنا في الحياة إن لم تنبع من قناعاتنا ورغبتنا الشديدة تصبح مجرد روتين مضجر، وتحول الإنسان إلى شخص مادي يفكر بالوظيفة وبلقمة العيش دون أن يولي أدنى اهتمام بإمكانية الاستفادة من طاقته وإبداعه الذي لا تكشفه العلامات ولا الثانوية العامة ولا المدرسة، في حين نرى بعض الطلاب يحصلون على علامات عالية جدا نتيجة تركيزهم فقط بالامتحانات "التي أصبحت مجرد تكرار لسنوات سابقة" في كثير من الدول العربية، أو بمساعدة مهاراتهم في الغش، وأيضا في هذه الحالة تتحكم به العلامة، فيستخسر الطالب دراسة تخصص يمكن أن يُبدع فيه لكنه يحتاج لعلامة متدنية،ويختار تخصصا مناسبا لعلامته، ويكون بهذه الطريقة قد اختار فشله، لأنه عمليا لن يستطيع أن يُبدع في مجال لا يحبه، وهذا ما يكتشفه من بعد تدني مستواه في دراسته الجامعية.

 

من جهة أخرى، لو قارنا النظام التعليمي في الدول العربية بالنظام التعليمي في دول أوروبية متقدمة، لوجدنا الفرق واضح، فالأول يختزل مستقبل الطالب خلال سنة واحدة تحدد مصيره من خلال العلامة، ويعتمد على التلقين من الأستاذ والتلخيص من أسئلة سابقة أو دروس خاصة تختصر المادة وتضعها في عقل الطالب كي يحصل على علامة جيدة، ثم لو سألته عن تلك المعلومات بعد سنةلوجدت أنه نسيها تماما، أما النظام التعليمي في الدول الأوروبية فهو نظام تراكمي يركز على اهتمام الطالب والمجال الذي يمكن أن يحبه ويستطيع أن يُبدع فيه أو على الأقل يطابق قدراته.

 

في الدول الغربية يقومون بتهيئة الطفل للتعلمبتدريبه على ممارسة السلوك الاجتماعي السليم، فلا يزيد عدد الأطفال من عمر (3-5 سنوات) في هذه المدارس عن أربعين طفلاً، مع وجود عدد كبير من المختصين المؤهلين، وتعتمد طرق التدريس على اللعب والغناء وسماع القصص الهادفة. ثم ينتقل الطفل لنظام التعليم الابتدائي الإلزامي الذي يشمل برامج دراسية منوعة تهدف إلى إعداد "مواطن صالح"، وفي هذه المرحلة لا توجد كتب ملزمة، بل تحدد المدرسة طرق التدريس التي ترتكز على البحث والابتكاروليس على مجرد الحفظ والتلقين، وتنتهي هذه المرحلة باختبار لا رسوب فيه، وحتى لو كان مستوى الطفل متدنيا، يتم نقله مع زملائه والعناية الخاصة به.

 

يقول روبِرت فروستْ إن "الثقافة هي كل ما يتبقى بعد أن ننسى ما تعلمناه في المدرسة"، وهذا ما يحصل فعليا حين ننسى كل النظريات ونتذكر كيف نطبقها من خلال القيم التي غُرست فينا والتي صقلت قناعاتنا وجعلتها تبدو أكثر قوة أمام مغريات الحياة وماديتها.

في هذه المرحلة نجد عددا قليلا من الامتحانات بهدف التقليل من الضغط النفسي على الطفل، بعكس النظام التعليمي لدى العرب والذي يعتمد على وجود امتحانات أسبوعية وشهرية وسنوية وما يتبعها من إرباك مستمر يضع الطالب في ضغط نفسي ويجبره على الدراسة وأداء الواجبات المنزلية بشكل يومي، فتجد الأم تجري يوميا وراء طفلها بالعصا كي تجبره على الدراسة، لأن طبيعة المناهج تتطلب ذلك، فهو لا يتعلم عن طريق القصة والأغنية والحكاية التي تُركز على تحسين سلوكه قبل تلقينه المعلومات ومن ثم تبقى القيمة المستخلصة منها في ذاكرته لآخر العمر، وهذا ما يلمسه كل فرد منا في طفولته حين يحكي له والده أو جده حكاية، فيتعلم من خلالها الكرم والأخلاق والتسامح وبر الوالدين وتنعكس تلقائيا على تعامله مع الآخرين، ولا يعي أنه تعلم منها إلا حين يكبر ويجد نفسه يمارسها في تعاملاته اليومية.

 

العامل الثاني الأكثر خطورة هو المجتمع والأهل الذين يتسببون في إرباك الطالب، فيكونكل همهم حصوله على علامة جيدة، ثم تحويله لشيء يتفاخرون به، وهذا ما يتسبب في حصول الكثير من الطلاب على علامات متدنية جدا، لأن تفكيرهم الذي يتركز في إرضاء الآخرين يتسبب في فشلهم، أضف إلى ذلك الأجواء العامة والبوليسية التي يوضع فيها الطالب خلال تقديم الامتحانات، حيث يتم تكثيف الأمن في المدارس والتفتيش اليومي والمراقبة، وهذه التصرفات سببٌ كافٍ لنرى أننا أنتجنا طلابا لا يمكننا الوثوق بهم حتى على مستوى تركهم في قاعة الامتحان دون مراقب، وكم أن امتحان الثانوية العامة مصيري، قد لا ينهار العالم برسوب الطالب فيه، لكن الكثير من الطلاب ينهارون بسبب هذه الأجواء وذلك التفكير.

 

لستُ بصدد وضع خطة لوزارات التعليم في البلاد العربية من أجل تحسين النظام التعليمي، لأن الأمر بحاجة لمتخصصين، هنا فقط سلطتُ الضوء على جزئية مهمة، وربما رسالتي موجهة للطلاب أكثر من أي شخص آخر، فبما أن نظام الثانوية العامة في بلادنا أمر واقع، على الطالب أن يفكر بطريقة مختلفة عن المجتمع، أن لا يعتقد بأن الثانوية العامة هي شيء مصيري في الحياة، مطلوب منه أن يدرس ويجتهد ويبذل طاقته، لكن الأهم أن يعرف قدراته وبالتالي يعرف ما يريده وما التخصص الذي يمكن أن يُبدع فيه خلال دراسته الجامعية وفي حياته العملية.

 

عن تجربة شخصية أحدثكم، كنتُ متفوقة في المدرسة، حصلتُ على أعلى الدرجات في كل الصفوف الابتدائية والثانوية، ودخلت الفرع العلمي دون تفكير، ربما لأن فكرة عائلتي عني بأنني متفوقة ولا أستحق أقل من الفرع العلمي، وربما لأنني كنت أحب مادة الكيمياء، وكنت أعتقد بأنني سأخترع شيئافي هذا المجال يوما ما، لكنني كنتُ أعرف أنني لا أريد الطب ولا الهندسة التي تنتظرها مني عائلتي،وكنت أشعر أن خطأ ما يحدثلكن لم أعرف ما هو، وفي الامتحانات الوزارية حصل معي ظرف خاص سيئ جدا، لدرجة أنني ذهبت لإجراء كل الامتحانات الوزارية دون دراسة أي مادة فيها، كنت أستيقظ من النوم وأذهب مباشرة لأداء الامتحان، ثم أكرر ذات الشيء كل يوم، وهكذا، لم أعرف كيف نجحت حين كان يتوقع الجميع رسوبي، وحصلت أيضا على معدل جيد، هل هو ذكاء أم حظ، لا أعرف.

 

بعد وقت قصير شكرت الله على أنني لم أحصل على المعدل المطلوب للطب، لأنني وقتها ربما درست هذا التخصص تحت تأثير العائلة وبهرجة اللقب، ورغم أن معدلي كان يؤهلني لدراسة الكيمياء التي أحبها، وحصلت على قبول لدراستها في أحدىأفضل الجامعات، إلا أنني حين فكرت جيدا بما أحب وما أريد وما التخصص الذي يمكنني من خلاله ممارسة قناعاتي والمجال الذي يمكن أن أبدع فيه، وجدت أن الصحافة هي الطريق الوحيد الذي أجد فيه نفسي وأستطيع من خلاله خدمة قضيتي والبسطاء من الناس، التخصص الذي وجدت فيه سعادتي، والذي أعتبره لشدة المصائب التي واجهتني فيه "بلوتي الجميلة".

 

يكفينا موقف واحد يستطيع أن يُعلم فينا ويُجبرنا على ممارسة الفضيلة التي تجعل مفاهيمنا للأشياء مختلفة، كمفهومنا للشرف الذي لا يقتصر على فقد العرض أو خيانة الأوطان بقدر ما هو مرتبط بالوعد والكلمة.

صحيح أن خياري كان صادما لعائلتي، لكنني اكتشفت بعده أن المدرسة فشلت في تعليمنا كيف نكتشف أنفسنا ونعمل ما نُحب وبالتالي نكون ما نريد، وهذا أهم ما ينقص النظام التعليمي لدينا. ربما كنتُ محظوظة بدرجة الوعي التي كانت لدي في تلك المرحلة رغم أخطائي، ومحظوظة بوالدي الذي شجعني على هذه الدراسة ولم يعارضني لأنني سأدرس تخصصايحتاج لعلامة قبول أدنى بكثير من معدلي الذي حصلت عليه في الثانوية العامة كما تفعل الكثير من العائلات، ونتيجة اختياري الصحيح استطعت أن أتفوق بالجامعة وأتخرج الأولى على قسم الصحافة والإعلام مع مرتبة الشرف، وأحصل على جوائز عالمية من مؤسسات عريقة في الصحافة الاستقصائية قبل تخرجي من الجامعة، واستطعت أن أعمل في هذا المجال وأنا في السنة الدراسية الثانية، وأتقنت كتابة أصعب الفنون. معنى هذا أن علامتنا أو فشلنا في الثانوية العامة لا يعني فشلنا في الدراسة الجامعية والحياة العملية، بل يبدأ فشلنا بعدم قدرتنا على معرفة ما نحب والانسجام معه، وجعل "علامة" تتحكم في مصير حياتنا.

 

يقول روبِرت فروستْ إن "الثقافة هي كل ما يتبقى بعد أن ننسى ما تعلمناه في المدرسة"، وهذا ما يحصل فعليا حين ننسى كل النظريات ونتذكر كيف نطبقها من خلال القيم التي غُرست فينا والتي صقلت قناعاتنا وجعلتها تبدو أكثر قوة أمام مغريات الحياة وماديتها.

 

قد نستفيد من العلم وقد لا نستفيد، تماما كما قد نتعلم من التجارب والأشخاص أو لا يؤثروا فينا، فحين نلتقي بشخص عابر نقول له قبل أن نودعه "تشرفنا بمعرفتك"، لكن الذي نتعلم منه أو يُعلم شيء منه فينا، فلا يجدر إلا أن نقول له " تعلمنا بمعرفتك".

 

بالنهاية، الامتحانات ضرورية في كل مراحل الحياة، ضرورية لاختبار الأشخاص كما اختبار العقول والقلوب، لكن مخطئ من لا يجعل مِن الحياة والأشخاص مدرسته التي لا يتخرج منها إلا بالموت، مَن لا يظل بداخله طفل يتعلم كل يوم، لأن أسمى القيم لا يمكن أن نتعلمها من المكاتب والمدارس والجامعات، يكفينا موقف واحد يستطيع أن يُعلم فينا ويُجبرنا على ممارسة الفضيلة التي تجعل مفاهيمنا للأشياء مختلفة، كمفهومنا للشرف الذي لا يقتصر على فقد العرض أو خيانة الأوطان بقدر ما هو مرتبط بالوعد والكلمة. مثل هذا المفهوم لا تعلمنا إياه المناهج الدراسية بل نتعلمه من الناس، وأذكر في هذا السياق تعريف جميل للشرف والسماحة كتبه المحامي والباحث الفلسطيني صالح أبو عزة:" ليس هنالك أجمل مِنْ أنْ تكونَ سَمْحَاً في جميع معاملاتك، أنْ تكونَ سَمْحَاً إذا بعت، سَمْحَاً إذا اشتريت. وليس هنالك أرقى مِنْ أنْ تُغَلِّفَ كلمتك بغلاف الشرف، أنْ تكونَ شريفاً إذا نطقت، شريفاً إذا وعدت".

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.