شعار قسم مدونات

وجوهٌ في مترو

blogs - الناس

متكور على ذاته في كرتونة، يعبق بكل أدخنة النسيان، يقف ماضيه فوق سقف النفق، ويمر حاضره من بين أقدام المارة، إيقاع يلازمه كلما اتخذ أرضية المترو فراشاً وسقفه سماءً.

 

متباهية بحزام وسط، يشكل القوام على كعبين ومعطف، لا تنظر إلا شذراً وعيون القوم تمعن في التحديق، وشعرٌ كلما انسدل أقامته ولا نسيم في الأجواء.

 

متبرم التجاعيد، منحني المنكبين، يتمتم بلغة تعز على المتمرس وتعجز المبتدئ، كلما توقف المركب تمتم وكلما سار المركب ترنم، لا يترك الوجوه دون فض، ولا الفضول يعود منه بالسلامة.

 

أطفال ثلاثة في ظهر المقعد يقفون، وأم توشك على الانقسام لتحتويهم، جذب صارم من أطراف الملابس، وآثار امتعاض على وجه الأصغر، بعدما نال منديل النظافة من منخريه، واحمرت الحدقتان.

 

حَذِرٌ بباب العربة، يحتضن حقيبة داكنة اللون منتفخة، ويد أخرى على الجيب الخلفي، مجتهد في إخفاء هواجسه، وتسرق عيناه بين الفينة والأخرى نظرة على الملاصق له من الركاب.

 

غيورٌ على فتاته، يده حدود مساحته، متوقد النظرات، يمازج بين الهمس والمراقبة، تتخذه متكئاً عند انحناء النفق، ويتخذها أرض سلطنة ومنطقة نفوذ.

 

كبرياء مصطنع، ومُصعِرة خدٍ عن الجميع، مقعدها عرش دون حشم، وساق ملتفة فوق ساق، تهزها باستمرار، تحدق في اللا شيء، وترمش دون توقف، كلما ظنت أن القوم يرمقون.

 

كثيف شعرٍ متجعد، بلباس اللامبالي، يستمد طربه من سماعتين مثبتتين على صدغيه، يديم الاهتزاز، ويقطب الحاجبين، كلما لامست الموسيقى داخله ما صعب على الخارج فعله.

 

مراهقة خجولة، تلتصق بجدار العربة، تحرص على ضم قدميها وحقيبتها إليها، وشعرها الممشط بعناية، لا يهتز البتة ويليق بمظهر طالبة مجتهدة، يزيد عليه في ذلك، نظارات وتقويم أسنان.

 

رجلُ أعمالٍ، يحرص على إظهار مفاتيح سيارته الفارهة، وإقناعك أن الاضطرار الى الوقوف الى جانبك كان حقاً اضطرارا، يتأفف كلما نظر إلى الساعة، ويتأكد من ربطة عنقه، كلما انحنى مسار السكة.

سائحون سذج، يتعالى صوتهم بلغة غير مفهومة، منهمكون بخرائط الوجهة، يظنون أن المحطة قد فاتتهم، فيسألون أحد الركاب، ليجيبهم باختصار، أنا مثلكم.

 

مثقفٌ وكتاب، يقلب الورق على مهل، وكلما قلب ورقة، استرق النظر الى خارطة المترو، ثم عاد لكتابه، ألوان ثيابه داكنة، وهناك تناسق غريب بين لون الحذاء وفاصل الكتاب الذي يستخدمه.

 

فنان غيتار، يركنه إلى جانبه، لا يركب الا محطة واحدة، واثق من طريقه، ومحملق بالسقف، واهتزاز القطار يلهمه ايقاعاً جديداً، ينزل من العربة ليستقر بجانب الفرقة التي تعزف في النفق.

 

رجلُ أعمالٍ، يحرص على إظهار مفاتيح سيارته الفارهة، وإقناعك أن الاضطرار الى الوقوف الى جانبك كان حقاً اضطرارا، يتأفف كلما نظر إلى الساعة، ويتأكد من ربطة عنقه، كلما انحنى مسار السكة.

 

مهووس بجهازه الخلوي، منهمك في مرحلة مهمة من لعبته المفضلة، تكاد تميز انحناءة عنقه المتشكلة من الانكباب على الشاشة، يسير بشكل آلي، روبوت إذ يركب وروبوت إذ ينزل، واللعبة لم تنته بعد.

 

تتعدد الوجوه، كلما صعدت عربة، وكلما نزلت مدينة، استرق النظر، وابدأ بصياغة الحكايا، فهذا الجمع الذي سيق أمامك، تَجربةُ تَمَعُّنٍ لا تتكرر، إيقاع فريد، وموسيقى لا تعزف إلا مرة واحدة في كل محطة، ولله در الخيال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.