شعار قسم مدونات

التّصحيفُ والتّحريفُ

blogs كتب
من الإرهاب الفكري الذي تمارسه بعضُ الجماعات المُتنطّعة تحذيرهم من قراءة الكتب، والتشديد في ذلك، دليلهم مقولة قيلت قديما في حق الكتب التي كانت عبارة عن مخطوطات مكتوبة باليد لا يوجد فيها تنقيط، وكانت غير واضحة المعالم لغير المختصين، فكان العلماء ينهون الطلاب المبتدئين عن قراءتها على غير الشيوخ، هذه المقولة هي: (من كان شيخه كتابه، فخطؤه أكثر من صوابه).

وهذا حقّ لا مرية فيه؛ لكنه ليس على إطلاقه، قيلت في زمانهم وليس في زماننا، حيث الطبعات الفاخرة والتحقيقات النفيسة، والشروحات الكثيرة على المتون.. وهناك مقولة أخرى تفسر هذه المقولة: (لا تأخذ علمك عن صُحفي أو مُصْحَفي)! والمعنى لا تأخذ العلم على يد قارئ ليس له ارتباط بأهل العلم يشرحون له ما يُستشكل في الكتب، ويكتفي بقراءة الصحف، ويعتمد على نفسه في دراسة القرآن دون الرجوع إلى شيخ متقن يلقنه إياه.. وهذا كله قيل في ذلك الزمان حين اختلط الحابل بالنابل.. ولا يمكن إسقاطه على زماننا إلا إذا كان الطالب أبا جهل في بداية الطريق لا يفرق بين أصل وفرع.
وَمِمَّا يؤيد ما ذهبنا إليه ما قاله العلاَّمةُ ابنُ عثيمين في كتاب (العلم) حين ذكر هذه المقولة: (هذا ليس صحيح على إطلاقه، ولا فاسد على إطلاقه، أما الإنسان الذي يأخذ العلم من أي كتاب يراه؛ فلا شك أنه يخطئ كثيرًا، وأما الذي يعتمد في تعلمه على كتب من رجال معروفين بالثقة والأمانة والعلم؛ فإن هذا لا يكثر خطؤه، بل قد يكون مصيباً في أكثر ما يقول).. وفي هذه التّدوينة يرُوقُني أن أعرض أقوال بعض الأئمة عن التّصحيف والتّحريف والفرق بينهما للتّضح الصورة لطُلاّب المعرفة.

قال المعري: أصلُ التّصحيف أن يأخذَ الرّجلُ اللّفظَ من قراءته في صحيفة ولم يكن سمعه من الرّجال فيغيّره عن الصّواب، وقد وقع فيه جماعة من الأجلاء من أئمة اللّغة وأئمة الحديث، حتّى قال الإمامُ أحمدُ بنُ حنبل: ومَنْ يَعْرَى من الخطأ والتّصحيف؟

نجد السيوطي في المزهر يعقد فصلا في التّصحيف والتّحريف، لم يفصل بينهما فصلا دقيقا، فلم يكن ضابط دقيق عنده لما يُسمى تحريفًا أو ما يُسمى تصحيفا. وكذلك نجد بعض المؤلّفين الأقدمين لا يُفرّقون بين التّحريف والتّصحيف، ويجعلونهما مترادفين.

قال ابنُ دُريد في الجمهرة: صحّفَ الخليل بن أحمد فقال: يوم بُغاث (بالغين المعجمة) وإنّما هو بالمُهملة.
ونظيرُ ذلك ما أورده العسكري في كتابه (التّصحيف والتحريف) قال: حدّثني شيخ من شيوخ بغداد قال: كان حيّانُ بنُ بِشر قد وُلِّيَ قضاء بغداد، وكان من جُملة أصحاب الحديث، فروى يومًا حديثَ أنّ عَرْجَفة قُطِعَ أنفُه يوم الكِلاب، فقال له مُستمليه: أيها القاضي، إنّما هو يوم الكُلاب، فأمر بحبسه، فدخلَ إليه النّاسُ فقالوا: ما دَهَاكَ؟ قال: قُطع أنفُ عَجْرَفة في الجاهلية، وابتليتُ به أنا في الإسلام.

قال الأصمعيُّ كنتُ في مجلس شُعبة، فروى الحديث، فقال: (تَسمعون جَرْشَ طير الجنة) بالشّين. فقلتُ: جَرْس، فنظرَ إليّ وقال: خذوها منه، فإنّه أعلمُ بهذا منا.
يقول العسكري في كتاب (شرح ما يقع فيه التّصحيف والتّحريف): فالاحتراسُ من التّصحيف لا يُدركُ إلاّ بعلم غزير، ورواية كثيرة، وفهم كبير، وبمعرفة مُقدّمات الكلام، وما يَصلح أن يأتيَ بعدها، مما يُشاكلها، وما يستحيل مُضامّته لها، ومقارنته بها، ويمتنع من وقوعه بعدها. وتَمييز هذا مُستصعب عسِر إلا على أهله، الحاملين لثِقلِه، والمستعذبين لمرارته.

هذا وقد كان النّاس فيما مضى يَغلطون في اليسير دون الكثير، ويُصحّفون في الدّقيق دون الجليل، لكثرة العلماء وعناية المُتعلّمين. فذهبت العلماءُ، وقلّت العنايةُ، فصار ما يُصحّفون أكثرَ مما يصحّحون، وما يُسقطون أكثر مما يَضبطون. اهـ مختصرا.

قال العلاّمة عبد السلام هارون في كتابه (تحقيق النّصوص): التّصحيف والتّحريف هما أكبر آفة مُنيت بها الآثارُ العلمية، فلا يكادُ كتاب منها يسلمُ من ذلك.. وأصلُ هذا أنّ قومًا كانوا قد أخذوا العلمَ عن الصّحُف من غير أن يَلْقَوا فيه العلماء، فكان يقع فيما يروونه التّغيير، فيقال عنده: قد صحّفوا، أي ردّدوا عن الصّحف، وهم مُصحّفون، والمصدر التّصحيف.

الفرقُ بين التّصحيف والتّحريف:
يقول عبد السلام هارون: ثمّ إنّنا نجد السيوطي في المزهر يعقد فصلا في التّصحيف والتّحريف، لم يفصل بينهما فصلا دقيقا، فلم يكن ضابط دقيق عنده لما يُسمى تحريفًا أو ما يُسمى تصحيفا. وكذلك نجد بعض المؤلّفين الأقدمين لا يُفرّقون بين التّحريف والتّصحيف، ويجعلونهما مترادفين.
أما ابنُ حجَر في (شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر) فيفرّق بين النوعين فرقًا واضحا. قال: إن كانت المخالفة بتغيير حرف أو حروف مع بقاء صورة الخط في السياق. فإن كان ذلك بالنسبة على النقط فالمُصحَّفُ وإن كان بالنسبة إلى الشكل فالمحرّف.

فهو يجعل التّصحيفَ خاصّا بالالتباس في نقط الحروف المتشابهة في الشّكل كالباء والتاء والثاء، والجيم والحاء والخاء، والدّال والذال، والراء والزاي، والسين والشين والصاد والضاد، والطاء والظاء. فإنّ صور تلك الحروف واحدة، ولا يفرق بعضها عن بعض في الكتابة الحديثة إلا النقط أو مقدارها.

وردَ كثير من التصحيف في اللغة والشعر والأعلام مما يطول الحديث فيه. وقدّ عمّت البلوى حتى قالوا: لا تأخذ القرآنَ عن مُصْحَفي، ولا العلمَ من صُحُفي. ولخشية التّصحيف نجد بعض المؤلّفين يلجؤون إلى مخالفة المعروف في اللغة.

أمّا التّحريفُ فهو خاص بتغيير شكل الحروف ورسمها كالدال والراء، والدال واللام، والنون والزاي في الحروف المتقاربة الصورة، والميم والقاف، واللام والعين في الحروف المتباعدة الصورة.
ومن التّصحيف النّاجم عن سوء القراءة ما جاء في (سير أعلام النبلاء) للذهبي في ترجمة عبد الرزاق بن همام، في حديث روي عنه مُصحّفًا : (النّارُ جبار). قال الذّهبي: أظنّها تصحّفت عليهم، فإنّ النّار تُكتب (النّير) على الإمالة بياء، على هيئة (البئر)، فوقع التّصحيف.

ومن التّصحيف والتّحريف ما يكون نتاجًا لخطأ السمع لا لخطأ القراءة، كأن يملي المُملي كلمة (ثابت) فيسمعها الكاتب ويكتبها (نابت )، أو (احتجم) فيسمعها الكاتب ويكتبها (احتجب). ومن هذا ما جاء في قول الرّاجز: كأنّ في ريِّقه لما ابتسم *** بلقاءةً في الخيل عن طفل مُتِمْ.. إنّما هي (بلقاءَ تنفي الخيل).

ومن طريف التّصحيف أيضا ما وردَ في مخطوطة مقاييس اللغة (مادة عبد): يُقال هذا ثوب له عبدة، إذا كان ضعيفًا قويّا. والصّواب: صفيقًا قويا. وفي كتاب الله قرأ عُثمان بن أبي شيبة: (جعل السقاية في رِجل أخيه). وقال أيضا: (أَلَم. تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ). وكان حمزة الزّيات يتلو القرآن من المصحف، فقرأ يوما وأبوه يسمع: (ألم. ذلك الكتابُ لا زيت فيه). فقال أبوه: دعِ المُصحفَ وتلقّن من أفواه الرّجال. وقرأ بعضهم: قال الله عن رجل… وفي الحديث صحّف بعضهم: صلاة في إثر صلاة كتاب في عِلّيين . فقال: كناز في غلس. وصحّف آخرُ: (يا أبا عُمير ما فعل النّغير) فقال: ما فعل البعير.

يقول عبد السلام هارون: وقد وردَ كثير من ذلك في اللغة والشعر والأعلام مما يطول الحديث فيه. وقدّ عمّت البلوى حتى قالوا: لا تأخذ القرآنَ عن مُصْحَفي، ولا العلمَ من صُحُفي. ولخشية التّصحيف نجد بعض المؤلّفين يلجؤون إلى مخالفة المعروف في اللغة ليتوقّوا وقوع غيرهم في الخطأ. جاء في صحاح اللّغة للجوهري في مادة (سعتر): السعتر: نبت، وبعضهم يكتبه بالصاد في كتب الطب لئلا يُلتبس بالشّعير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.