شعار قسم مدونات

الدولة الإسلامية ومشكلة المنهج (3)

blogs الخلافة

سبق لي في المقالات السابقة إثبات فكرة أنه ليس لدى الإسلاميين مفهوم محدد للدولة، وأن تصوراتهم عنها محل إشكال كبيرٍ، وهذا ينطبق على الكثيرين ممن أشرتُ إلى أعمالهم ونقلت اقتباسات دالة عنهم. ولكن أحب أن أقف هنا عند كتابٍ مخصوصٍ كان له دور بارز في هذا السياق، وهو كتاب "النظريات السياسية الإسلامية" لمحمد ضياء الدين الريّس الذي كتبه سنة 1952، وذلك لتوضح مأزق فكرة الدولة وتصوراتها.

 

جاء الكتاب في سياق مركب من جملة أمور: أولها: الرد على أطروحة علي عبد الرازق؛ رغم أنه كان قد مضى عليها نحو 26 سنة، ومع ذلك فهي تحضر في مقدمة كتاب الريس ويشير إلى أنه خصص لها كتابًا آخر أيضًا. وثانيها: أن الريس شخّص علة الشرق الأصيلة في "فساد أنظمته السياسية وتأخر تفكيره السياسي"، وأن كتابه هذا جاء لرفع مستوى التفكير بالدولة وشؤونها. وثالثها: أنه درس في لندن مادة "النظريات السياسية" وأزعجه غياب الفكر الإسلامي عنها، وأرّقه سؤال: "ألم ينتج الإسلام تفكيرًا سياسيًّا؟" فقرر أن يجيب على السؤال من خلال هذا الكتاب، وذلك عبر دراسة للتراث وتعقب الأفكار المبثوثة في ثناياه ومقارنة هذه الأفكار بالأفكار الغربية التي تُدرس في النظريات السياسية "والتي انجلى عنها تطور الغرب".

 

وتعبير "النظريات الإسلامية" يعني به التفكير الفلسفي المستند إلى "الأصول المتفق عليها التي تستنبط منها المبادئ الإسلامية"، وهذا لا ينطبق إلا على علماء الكلام والفقه الذين يرى أطروحاتهم "إسلامية بحق"، أما ما عداها فهي آراء فردية، وحِكَم ونصائح، وإرشادات عملية للحاكم. وبهذا المعنى كان هدفه أن يرسم "معالم محددة لعلم ينبغي أن يُعتبر جديدًا يسمى (علم النظريات السياسية الإسلامية)"، فكتابه – بتعبيره – "أول كتاب يتبع منهجًا علميًّا" يتناول هذا الموضوع.

 

كان الريّس مدفوعًا بتلك الهواجس، فقد درس المناهج الغربية وتأثر بها من جهة، وكانت لديه حماسةٌ إسلاميةٌ من جهة أخرى، وهو ما أسفر عن كتابٍ يجمع بين التأثر بكتابات المستشرقين ومناهجهم تارةً (كربط الأفكار بأحداث التاريخ)، والاستعلاء عليهم وإثبات أن الإسلام كان له الأسبقية تارةً أخرى، والولع بإثبات ذات الأفكار الغربية في الفكر الإسلامي تارة ثالثة. فالنتيجة التي انتهى إليها الريس هي أن المسلمين قد فكروا فعلاً في السياسة، وكوّنوا لهم نظريات عنها، وقد تراوحت طرائقه "العلمية" لإثبات تلك الحقيقة بين السعي لإثبات التماثل وإثبات التفوق وإعادة تأويل مسائل تراثية لتتواءم مع الفكر السياسي الغربي دون تدقيق في المصطلحات والتصورات الحاكمة فوقع في ارتباكات عديدة؛ لأنه كان مدفوعًا بتقليد النظريات السياسية الغربية أساسًا والاحتذاء بها فقدم قراءةً أيديولوجية أحيانًا.

 

لدى الريس قناعة بأن التفكير السياسي الغربي وُجد في التراث الإسلامي، "غير أن بحث المسلمين كان تحت اسم آخر، وتكلموا بلغة أصبحت غير مألوفة في العصر الحاضر". فالنظريات التي وصل إليها المسلمون كانت إما جزءًا من مباحث علم الفقه أو الكلام أو التاريخ أو الفلسفة أو الأدب. وهذه النظريات "تضاهي ما أنتجته أوروبا في بعض عصورها الزاهية". وقد اعتبر أن الإمامة هي أساس النظريات السياسية وأن مكانها الرئيس علمُ الكلام.

 

وحين حدد مزايا التفكير السياسي الإسلامي حددها بناءً على ما درسه في الفكر الغربي، فوجد أن التفكير الإسلامي نشأ نتيجة التطور التاريخي، وأنه تفكيرٌ كان مدفوعًا إلى أن يتحول إلى "صيغة قانونية"، وأنه يتميز عن التفكير الغربي في أنه كان مرتبطًا دائمًا بالقيم الأخلاقية التي لا يستطيع أن ينفصل عنها أو يتجاهلها. أي أن الريس يسعى لتقديم صورة مماثلة تكون نتاج التطور التاريخي وتسود فيها النزعة القانونية على النمط الذي عرفه التفكير الأوروبي، ولكنه يتمايز عنه باندماج القانوني بالأخلاقي.

 

وقد حرص الريس على إثبات "سياسية" الدولة النبوية من خلال ثلاثة أمور: تكوين مجتمع له ذاتية مستقلة، وأنه استكمل حريته وسيادته، وأنه لم تكن من وظيفة يقال عنها: إنها سياسية إلا وكانت دولة الرسول تؤديها. بل إنه يذهب أبعد من ذلك إلى أن العقد الذي تحدث عنه روسو كان مجرد وهم وخيال أما العقد الذي حصل في بيعتي العقبة وقامت على أساسه الدولة الإسلامية فهو عقد تاريخي تم فيه الاتفاق بين إرادات إنسانية حرة وأفكار واعية، في قراءة حداثية للتاريخ الإسلامي.

 

ومن مظاهر سعيه لإثبات التفوق على النموذج الغربي أنه يصل إلى نتيجة تقول: إن "من الحقائق التي لا تزال غير معروفة لكثيرين: أن الدولة الحديثة كانت اقتباسًا إلى حد قريب أو بعيد من الدول التي كانت موجودة في بلاد الشرق الإسلامي لذاك العهد، كما أن النهضة القانونية التي حدثت في أوروبا وأدت إلى تكون تلك الدولة، كانت صدى لنشاط الدراسات القانونية في الممالك الإسلامية التي كان القانون أو الفقه هو المادة الأولى للدراسة في جميع كلياتها"، أي أن الدولة الحديثة هي اقتباسٌ عن الدولة التي عرفها الشرق!

 

يضطرب الريس في تحديد مفهوم واضح ومنضبط للدولة والخلافة والحكومة، بل لا يهتم بتدقيق تلك المصطلحات أصلاً رغم أنه انشغل بمصطلحي الإمامة والخلافة؛ لأنه معنيٌّ بإثبات التماثل والتفوق في آن واحد، وأن الفروق مجرد فروق لفظية بين لغة قديمة ولغة معاصرة، فالدولة النبوية تحولت إلى خلافة، والإمامة والخلافة والإمارة بمعنى واحد، ولكن غلب استعمال الإمامة تبعًا للشيعة واضعي هذا الفن (هكذا!). والتعريف الحقيقي للإمامة هو أنها "الحكومة الإسلامية الشرعية الدستورية"، أو "الحكومة التي تكون الشريعة الإسلامية قانونها": سواءٌ القانون الأكبر – وهو ما نسميه اليوم بالدستور – أم قانونها الفرعي وهو مجموعة الأحكام التشريعية، والشرع الإلهي يستمد مرجعيته من القرآن والسنة ومن الإجماع الذي هو "الإرادة العامة للأمة"، والقياس الذي هو "الاجتهاد العقلي للفرد". ويسمى هذا الحكم "الحكم الإسلامي".

 

من الممكن الآن إطلاق أسماء أو ألقاب أخرى تناسب التطور السياسي في العصر الحديث"، أي أن الريس يرى كل هذه التطورات تطورات شكلية ولفظية

والإمامة أو الخلافة فرضٌ أساسي من فروض الدين، بل هو الفرض الأعظم الذي يتوقف عليه سائر الفروض، والأمة مقصرة ويقع عليها الإثم من الوجهة الدينية إذا لم تقم بهذا الواجب! أليس هذا المعنى نفسه الذي قال به البنا ومن بعده من عامة الإسلاميين كما أوضحنا في مقالات سابقة؟

 

ولكن ماذا عن الخلافة في العصر الحديث؟ يرى الريس أنها "قيادة عامة للأمة الإسلامية تمثل وحدتها وتحفظ كيانها وتحقق مصالحها وتنفذ مبادئ الإسلام"، وهي: "إقامة الدولة الإسلامية واستمرارها"، وهي التي تقوم على أساس الإسلام وتنفذ شريعته وتحفظ أوطان الإسلام وتدافع عن أهله وتعمل لنشر رسالته في العالم، وهي التي قرر العلماء أنها فرض أو ركن، وإذا كانوا قد أسموها خلافة أو إمامة فإنما كانوا يستعملون الأسماء التاريخية أو التقليدية، ومن الممكن الآن إطلاق أسماء أو ألقاب أخرى تناسب التطور السياسي في العصر الحديث"، أي أن الريس يرى كل هذه التطورات تطورات شكلية ولفظية، ولا يجد حرجًا في إعادة تأويل الإجماع من إجماع فقهي إلى إجماع شعبي سياسي، والقياس من عمل المجتهدين في إطار النص إلى "اجتهاد عقلي للفرد"، كل هذا ليتوافق مع التصورات الحديثة للدولة وأنها بعينها موجودة في التاريخ الإسلامي!

 

ولا يقف الأمر به عند هذا الحد من التأويل، بل يصل – تبعًا للسنهوري – إلى أن مفكري الإسلام أدركوا جوهر نظرية روسو وهي التي تقول: إن الحاكم أو رئيس الدولة يتولى سلطانه من الأمة نائبًا عنها؛ نتيجة لتعاقد حر بينهما، كما عرفوا نظرية السيادة كما عبر عنها روسو فيما بعد، ويعلق بأن هذا يثبت تفوق الإسلام على الفكر الأوروبي بقرون، خصوصًا أن العقد هنا حقيقي وليس خياليًّا كما تصوره روسو!

 

ومن اللافت أن الريس أفرد عنوانًا جانبيًّا للكلام عن أن "الأمة هي الأصل"، وهي الطرف الأول لعقد الإمامة كوحدة متضامنة ذات ذاتية مستقلة، ليصل إلى نتيجة هي أن ما توصل إليه فقهاء الشريعة وقرروه في كتبهم قبل قرون لم يقل أقطاب الديمقراطية الحديثة أكثر منه! ولأجل هذا التلاؤم مع الفكر الغربي يعيد تأويل "فرض الكفاية" فيرى أنه هو – بعينه – ما تسميه العلوم السياسية الحديثة بـ"التمثيل"، فهو الفرض الذي يؤدى بطريق الإنابة أو التمثيل!

 

ونظرًا لافتراق كلام المتكلمين والفقهاء عن "أهل الحل والعقد"، يصل الريس إلى تأويل بديع (!) وهو أن الفقهاء والمتكلمين يتحدثون عن هيئتين مختلفتين من أهل الحل والعقد: واحدة يشترط فيها الاجتهاد وبلوغ أعلى مستوى من العلم وهي (الهيئة التشريعية)، والثانية لا يشترط فيها ذلك بل يكفي فيها أن يكون أهلها عارفين بأحوال المجتمع واختيار الأصلح وهي (الهيئة السياسية).

 

والغريب أن الريس مع كل هذه الولع بإثبات التماثل بين النظريات الإسلامية والنظريات الغربية يصل إلى مسألة "عَقد الإمامة بواحد"، فلا يرى بها بأسًا، ويؤولها بأن معناها أن ذلك الواحد ممثلٌ عن الأمة، والاختيار في نهاية الأمر إنما هو اخيتار الأمة، ومبدأ الانتخاب قائم كما هو ، ولا يرى حرجًا في أن منصب الإمام هو المصدر الذي تَصدر عنه السلطات التنفيذية وهي الولايات والوظائف، ومر على إمارة الإستيلاء وفسرها بأنها من باب الاعتراف بالواقع بحكم الضرورة وتحصيل المصالح، من دون استشكال لها بمنطق العصر الحديث الذي يسعى على طول الكتاب إلى استعارته في إعادة تأويل التراث!

 

و"الدولة الإسلامية" أعم من "الدولة السياسية" عنده؛ لأن الإسلامية ذات وظائف روحية ومادية في آن واحد، ولكن هل يوصف "النظام الإسلامي" بأنه ديمقراطي أو ثيوقراطي أو ملكي؟ يجيب الريس أنه ليس ثيوقراطيًّا، ولكن ذلك لا يمنع من المقاربة بينهما؛ لأن الله هو المشرع الأوحد ووظيفة الدولة تطبيق ذلك التشريع، ولكن الإسلام شيء أشمل من الديمقراطية أو هو فوقها كما يقول، ويحتوي على عناصر لا توجد في طبيعتها حتى يمكن أن يُعد في النهاية مغايرًا لها. فوجوه الخلاف بين الديمقراطية والإسلام تَغلب عنده، وهي أهم من وجوه التماثل، وهي ثلاثة: أن الإسلام ليس قومية ولا مقيدًا بحدود معينة، فنظرة الإسلام إنسانية وأفقه عالمي؛ فالرابطة الأساسية وحدة العقيدة، وأن أغراض النظام الإسلامي أو الديمقراطية الإسلامية تجمع إلى الأغراض المادية أغراضًا روحية التي هي الأولى والأسمى، وأن سلطة الأمة في الإسلام ليست مطلقة بل مقيدة بالشريعة.

 

أما السيادة في الدولة الإسلامية فهي لأمرين: الأمة والشريعة. فالدولة الإسلامية إذن "نظام فريد خاص بالإسلام لا يصح القول بأنه يتطابق مع أي من النظم المعروفة، ولذلك ينبغي أن يوضع لها اصطلاح خاصٌّ وتسمى باسم يمثل حقيقتها، وما دام هذا الاسم لم يوضع ولم يُهتدَ إليه بعد فيكتفي الآن بأن يشار إليها بصفة مجملة على أنها النظام الإسلامي".

 

ومن شدة شغف الريس بمحاكاة النظريات السياسية الغربية، انشغل بفكرة الدستور والقانون، وسمى الفقه الإسلامي "القانون الإسلامي" وهي الترجمة العربية للتعبير الإنجليزي الذي هو محل إشكال أيضًا، بل إنه غلّب فكرة "الوجوب" على الشريعة وجعلها أكثر أجزائها، وهي مجموعة من الواجبات أو الفروض: العينية والكفائية، وتحدث عن فروض أخلاقية سياسية كالوفاء بالعهود وإصلاح حال الجماعة، ليشاكل فكرة دولة القانون في النظريات السياسية الغربية.

 

ومن اللافت تغير كتابات الإسلاميين ومواقفهم مع تغير هذه السجالات وتطور المفاهيم، فكما أن المودودي وتقي الدين النبهاني لم يكونا يريان مشكلة في تسمية الدولة الإسلامية "دولة دينية"

درس ضياء الدين الريس تخصص التاريخ، ورأسَ قسم التاريخ الإسلامي في كلية دار العلوم، وادعى أنه مارس عمل المؤرخ في كتابه هذا؛ مع أنه لم يقتصر على ذلك كما يتضح من استعراض هذه التأويلات الأيديولوجية والمقارنات الثقافية المدفوعة بالتحيزات غير العلمية، وبحث في "النظريات" التي هي – بتعريفه – نوعٌ من التفكير الفلسفي، ورأى أن محل هذه النظريات كتب الفقه والكلام، ومن اللافت أن عامة كتابات الإسلاميين عن "الدولة الإسلامية" جاءت من غير الفقهاء، ومزجت بين الفقه والفكر، أو الفقه والقانون، فليس هناك مساراتٌ متوازيةٌ ومنفصلة في الكلام عن الدولة كما قد يُتوَهم، وفي كتاب الريس امتزج التاريخي بالفقهي والكلامي وسماه "تفكيرًا فلسفيًّا".

 

وحين نقول: إنه لا يوجد تنظير حقيقي للدولة الإسلامية فمعناه مفارق لهذا الذي قدمه الريس الذي كان مشغوفًا بمشاكلة النظريات السياسية الغربية، وإبراز تفوق الإسلام عليها، ولكنه حين جاء إلى العصر الحديث وقع في مطبات كثيرة واضطرابات؛ وهو ما يؤكد ما قلناه من فراغ التنظير الإسلامي للدولة حديثًا، أي أنه لا يوجد تنظير يوضح لنا كيف تقوم الدولة وتتطور، وكيف تعمل مؤسساتها؟ وما مفهومها ووظائفها؟ وما العلاقة بينها وبين الخلافة والدولة الحديثة بعيدًا عن الخطاب الوعظي أو الديني العام، فكل الكتابات تقف عند حدود توصيف الفكرة الدينية العامة، وأنها تحكم بالشريعة، ثم تجتهد في إزاحة التناقضات بينها وبين أطروحة الدولة العلمانية، كمسائل الأقليات والحريات وغير ذلك، فهي تُحَدَّد دومًا بالسلب لا بالإيجاب، وبالتبع لا بالاستقلال، فهي كتابات تقوم على الانتقاء والتوليف على أرضية ضغوط الفكر الحديث أو العلمانيين والرد على "شبهاتهم".

 

ومن اللافت تغير كتابات الإسلاميين ومواقفهم مع تغير هذه السجالات وتطور المفاهيم، فكما أن المودودي وتقي الدين النبهاني لم يكونا يريان مشكلة في تسمية الدولة الإسلامية "دولة دينية"، فإن الريس كان يرى مشكلة في توصيف الدولة الإسلامية بأنه "دولة مدنية" قائلاً: "ولا يمكن أن يقول أحد إن الدولة الإسلامية دولة مدنية، يقصد غير دينية أو غير إسلامية إلا مطعون في عقله وخلقه أو مخرف جاهل"، وقد تجاوز الإسلاميون بعد ذلك هذين المصطلحين فنفوا بشدة كونها "دولة دينية"ـ، وتمسكوا بشدة بكونها "دولة مدنية"، ما يحيل إلى مأزق المصطلحات والمفاهيم والتي يرجع إليها جذر الإشكال. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.