شعار قسم مدونات

لَيالي القَدْر…

blogs - moon
هي ليلة ينتظرها المسلمون في شهر رمضان بفارغ الصبر، وهي ليلة يشمر فيها العابدون عن ساعد الجد والعزم، وهي ليلة يقف فيها المحبون على أصابع من جمر، يتعرضون لرحمات ربهم وبركاته فترى وتسمع الدعوات ترتفع بالسر والجهر، وهي ليلة تأتي لتتوج جهود العبد في التقرب من مولاه مسيرة شهر، بل هي ليلة خير من ألف شهر، وقد وسمها ربنا عز وجل بليلة القدر.

وحول هذه الليلة المميزة التي أخبر بها ربنا عز وجل ومدحها وأعلى من شأنها، حيث قال في محكم تنزيله ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾. اخترت أن أخط أسطر هذا المقال محاولا توضيح ما تنطوي عليه هذه الليلة أو المناسبة من أسرار وفوائد، تهدي العبد سبيل الفوز والرشاد. ولا بأس أن أقر في البداية أنني ممن تستهويهم الأسئلة، ويروقهم الخوض في الدقائق منها التي من الممكن أن تلهمنا نوعا من المعرفة، لا أقطع بصحته ولكن على الأقل نتحصل عليه بعد جهد وعناء.

إن الناظر في مساجدنا اليوم ليهوله كم المصلين الوافدين في ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، حيث لا يمكنه الإفلات من شراك معادلة لا تستقيم بحال بينها وبين سالف الليالي. لا ريب أن ليلة القدر ليلة أرفع مكانة وأكرم منزلة من الليالي الأخرى، ولكن ما تبرير المفرطين في بقية ليالي الشهر العظيم؟ وهل أتانا اليقين بأن هذه الليلة هي ليلة القدر دون غيرها من العشر الأواخر التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بتحريها، فنخصها بكل هذا الذكر والتسبيح والقيام؟ إذن ما المراد منا في حقيقة الأمر تجاه ليلة القدر؟

المسلم مطالب باغتنام كامل أيام وليالي هذه الدورة وعدم تضييعها سواء كان في العشر الأوائل أو العشر الأواسط أو العشر الأواخر.

لا يخفى على أحد أن رمضان شهر مبارك وعظيم، فهو شهر القرآن الذي أنزل فيه هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. وقد جمع العلماء المفسرون رأيهم على أن القرآن قد نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة من ليالي هذا الشهر، وبالتحديد في ليلة القدر استنادا إلى قول الله تعالى ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾.

في حين تعددت الآراء حول هذه التسمية بالقدر، فمنهم من قال بأن القدر نسبة إلى القدر الكبير والمكانة الرفيعة التي يحظى بها من شهد تلك الليلة المباركة، ومنهم من اعتمد الأصل اللغوي فقدم القدر بمعنى الضيق واعتبر أن هذه الليلة تضيق بعدد الملائكة المنزّلين وغيرها.. لا يتسع المجال لذكرها.

هكذا يكتسب رمضان عظمته إذ يكون همزة وصل بين السماء والأرض، خاصة وأن فيه ليلة ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ﴾. وهذا المدد السماوي إنما يغشى العباد في هذا الشهر، في محاولة للفت انتباههم إلى أهمية الاستقامة على طريق الحق في الأرض، والالتزام بمبدأ التقوى ولذلك يقول تعالى ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، فبهذا تتحقق غاية إعمار الإنسان للأرض وحسن خلافة الله في كل شؤون هذه الأرض.

فرمضان يعتبر دورة تدريبية لإعادة التفكير في كل ما يحول دون حسن عمارة هذا الإنسان للأرض من حسد وعداء الشيطان من جهة وسلبية النفس ومساوئ صفاتها من جهة أخرى. فالمسلم مطالب باغتنام كامل أيام وليالي هذه الدورة وعدم تضييعها سواء كان في العشر الأوائل أو العشر الأواسط أو العشر الأواخر، ليخرج في نهايتها بإدراك أو تصوّر جديد لمفهوم التقوى، وبالتالي لمعنى قوله تعالى ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.
ولا داعي إلى التذكير هنا بخطورة النفس، وكم هي الحجب التي تعرضها أمام العبد في طريقه إلى الله، خاصة مع استشراء هذا الطغيان المادي في التفكير الذي تفرضه الحضارة وبدعوى التحضر. وأذكر في هذا الباب قول أحد العارفين إذ يصف النفس فيؤكد بأنها أخبث من سبعين شيطان، لأنها قد تبعد بصاحبها عن التقرب إلى الله من حيث لا يشعر.

تعددت الآراء حول هذه التسمية بالقدر، فمنهم من قال بأن القدر نسبة إلى القدر الكبير والمكانة الرفيعة التي يحظى بها من شهد تلك الليلة المباركة.

فترى الواحد منا ينقطع عن قراءة القرآن بعد ما كان يقرأه حثيثا، أو يتأخر عن الصلاة بعد أن كان يسابق الجميع، ولعل الفتور شأن النفس وطبعها ولكن على المسلم القوي أن يسود نفسه وقت إقبالها ووقت إدبارها، فلا تؤول فترته إلى انقطاع وانتكاس كما وصى بذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام.

بمثل هذه الدروس يعلمنا رمضان معنى الثبات والمداومة والاجتهاد في طاعة الله، لا سيما في العشر الأواخر منه. وقد جاء في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر- أي الأواخر- شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. لذلك اخترت أن أسمي هذه العشر بليالي القدر، فنخصها جميعا بالذكر والتسبيح وقراءة القرآن والقيام والتهجد، خاصة وأن نبينا عليه الصلاة والسلام لم يسمي لنا ليلة بعينها، وإنما حثنا على التثبت والتحري في هذه الليالي العشر.

فلتكن ليلة القدر هي كل هذه الليالي ولنحييها بنفس واحد ورغبة واحدة في تحقيق التقوى والسلام، عسى أن لا نصاب بفتور يبعدنا عن هذه الخيرات والنفحات والرحمات بعد انقضاء هذا الشهر الكريم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.