شعار قسم مدونات

ماري تجدُ السّماء

blogs - ماري
رأيتُ اسمَها على لائحة العيادة، وكان واضحا أنّها من السّكان الأصليّين. هل أكثرُ دلالة على أزمة هويّة ما من أن يكونَ كلُّ ما يُطلَق عليها إشكاليّا؟

 

من السيّئ وصفُهُم ب"الهنود الحُمر"، فليس خطأهم أنّ كولومبوس وصلَهم باحثاً عن الهند. أمّا التعبير الأكثر لطفا، وهو "الأمريكيّون الأصليّون" أو "ِNative Americans" فترجمتُه العربيّة تخفّف من إشكاليتِه الشديدة بالإنجليزيّة، حيث يُشتَقّ لفظ "Native" من "Nature"، وهو ما يوحي بأنّهم بَشَرٌ "طبيعيّون" أو منتمون للطبيعة، بخلاف الأبيض الذي ينتمي للثقافة. هذا اللفظ ظاهر البراءة يحملُ بوضوح إيديولوجيا الرّجل الأبيض الذي يرى كلّ ما سواه موضوعا أنثروبولوجيّا بالمعنى غير الحميد للكلمة.

 

أقلّ التسميات سوءا، ألا وهي "السّكان الأهليّون" أو "The Indigenous People" لا يخلو هو الآخر من ظلال سابِقِه، ويوحي بما شعر به الرجل الأبيض تجاهَهم: نمطٌ فريدٌ من البشر ينتمي إلى الأرض انتماء عُضويّا، ما جعلَهم في نظر هؤلاء الغازين القادمين من وراء البِحار، والذين لن يفهموا بالتّالي فكرة الانتماء العضويّ للأرض، مجرَد حيوانات أكثر ذكاءً، بقليل.

 

لا يعلم كثيرون عن تلك الحوارات الصّامتة التي تدور بين مريضٍ وطبيبِه النّفسيّ. ما كان ل"ماري" أن تأتيَ هنا لولا معاناةٌ طويلة. هي امرأة وأنا رجل، وسيكونُ كلُّ رجلٍ عرفته في حياتِها واقفا بينَنا أو جالسا معنا

مع اسمِها الذي يشي بانتمائها للسّكّان الأصليّين، بدأت تتشكّل صورةٌ في مخيّلتي قبلَ أن أراها. قابلتُ كثيرا منهم، وثمّة أنماطٌ تتكرّر مهما قاوم البشر مدّعو الحضارة فكرة الصّور النمطيّة. الصّور النمطيّة قراءاتٌ خاطئة أو صائبة لوقائع اجتماعيّة وثقافيّة وسيكولوجيّة تتكرّر، ومقاومتُها تكون بمقاومة أسبابِها وجذورِها، لا برفض الحديثِ عنها.

 

كان اسمُها أولَ ما لفت نظري، فمن خلاله عرفتُ أنّها منهم، فلا يمكن لامرأة بيضاء أو لاتينيّة أو سمراء أن يكون اسمُها "Mary Findsky"، أو "ماري تجدُ السّماء" كما أحبّ أن أتذكرَها.

 

توجهتُ إلى قاعة الانتظار، وعرفتُ أنّها هي من نظرة واحدة، من الوجه قليل الملامح وكثير التّجاعيد، ومن العيون التي عبرت من الغضب إلى حدود اللامبالاة من طريق الحزن، ومن لون بشرتِها البنّي المائل للرّماديّ، ومن الجدائل الرّماديّة النحيلة التي تنتهي إلى ما يُشبهُ قلمَ رصاصٍ مبريّا، ومن قلادة التركواز بلونِه الأزرق المائل للخضرة المُشعّة، وقبلَ ذلك، من فارق السنين العشرة بين ما يبدو عليه السّكان الأصليّون وبين أعمارهم الحقيقيّة.

 

رافقتني إلى عيادتي.

"I like your name".

كان أوّل ما قلتُه لها لكسر حواجزَ كثيرة. من يدري ماذا يدورُ في ذهنِها وهي ترى هذا الطبيب ال"شرقَ أوسطي" كما يُسمّونَنا؟

 

لا يعلم كثيرون عن تلك الحوارات الصّامتة التي تدور بين مريضٍ وطبيبِه النّفسيّ. ما كان ل"ماري" أن تأتيَ هنا لولا معاناةٌ طويلة. هي امرأة وأنا رجل، وسيكونُ كلُّ رجلٍ عرفته في حياتِها واقفا بينَنا أو جالسا معنا وهي تتحدّثُ عن آلامِها وأخصّ خصوصيّاتِها. هل سيكون انتمائي ل"أقليّة" أخرى سببا لشعورِها بارتياحٍ خفيّ؟ أم سيكونُ حاجزا آخر؟ مرّت هذه التساؤلاتُ كلّها وغيرُها في قريبٍ من ثانيتين.

 

"ماري ليس اسمي!" .. أجابتني بغضبٍ حاولَتْ كبتَه.

"كنتُ أقصد اسمك الأخير" .. حاولتُ التّخلّصَ من المأزق، وكان اسمُها الأخير، Findsky، هو ما قصدتُه على أيّ حال.

بدا عليها ارتياحٌ حاولَتْ كبتَه أيضا.

 

"قلادتكِ تُخبرُني أنّك من قبائل أَكَمَا". قلتُ لها مستعيناً ببعض الخبرة في أنماط المجوهرات التي تتميّزُ بها كلُّ قبيلة من السّكان الأصليّين.

بدا عليها ارتياحٌ لم تحاول كبتَه.

كان انتمائي ل"أقليّة" في المجتمع الأمريكيّ يُشعرُني بالقدرة على طرقِ مسالكَ يعتبرُها كثيرون وعرة عند الحديث مع الأقلّيات أو عنها.

"وأنت، من أين؟" .. سألتني ماري. كان ما مرّ من الحوار كافيا لتلاحظَ لكنتي العربيّة، أو الشرق أوسطيّة.

 

ثمّة كثيرٌ من الإجابات المحتمَلة لهذا السّؤال. "عربيّ" جوابٌ محتمَل، وله ظلالُه التي يُرخيها وصورُه النمطيّة التي يخلقُها. "من الشرق الأوسط" جوابٌ آخرُ محتمَل، يفضّلهُ كثيرٌ من العرب الجدد في أمريكا، فهو جوابٌ مفادُه: نعم، أنا من تلكَ المنطقة التي خطرت في بالك، بكلّ مشكلاتِها التي تسمعُ عنها، ولكن دعنا لا نخُضْ في التفاصيل. "من فلسطين" جوابٌ ثالثٌ محتمَل، وهو ما أجيبُ به عادة، وأستغرقُ كلَّ مرّة في الانطباعات التي يتركُها هذا الجواب. في كثيرٍ من الأحيان، تتغيّر ملامحُ وجه السّائل ثلاث مرّات قبل أنْ يستجمعَ مجاملةً لطيفة مثل: "أوه. أهلا بك في الولايات المتّحدة"، أو "سعيد بلقائك". تتراوحُ الملامحُ من الاستغراب، إلى الارتباك، إلى الحزن أو ربّما الشّفقة، إلى رغبة مكبوحة في السّؤال عن بعض التّفاصيل.

 

وجدتُ نفسي أمامَ مفارقة في غاية الأسى. ها نحن، ماري وأنا، نتواصلَ بلغة غريبة على كلّ منّا. أنا تعلمتُها رغبة وأعتبرُها امتيازا لي، وهي تعلَّمَتْها قسرا وتعتبرُها عدوانا عليه

"من فلسطين" .. أجبتُ منتظِرا ردّة فعلِها.

جالت بذهني احتمالاتٌ كثيرة. هل ستشعرُ بتضامنٍ ما مع شعبٍ شُرّدَ كثيرٌ من سكّانِه هو الآخر؟ هل تعرف عن ذلك أصلا؟ هل ستسألُني أكثر عن ذلك؟ هل ستتساءل عمّا أتى بطبيبٍ من فلسطين إلى الجنوب الغربيّ الأمريكيّ؟

شعرتُ أنّ ذلك كلَّه مرّ في ذهنِها سريعا. لسببٍ لا أعرفُه، شعرتُ أنّها أحسّت بانتماء مشترَكٍ ما، بقضيّة ما، بألمٍ ما، لكن، ولسبب لا أعرفه كذلك، فقد عَبَرَت ذلك كلّه إلى جوابٍ غير متوقّع.

 

"تصنعون أطباقا لذيذة جدّا في فلسطين. هناك مطعم فلسطيني جيّد في المدينة" .. أجابت ماري. وبدا على وجهها شبحُ ابتسامة، بدت لي تأكيدا على هذا الحوار الصّامت الذي خضناه حول فلسطين. بادلتُها الابتسامة.

"رغمَ أن انجليزيتك ممتازة، إلا أني لاحظتُ لكنة فيها كما لاحظتِ في انجليزيّتي". قلتُ لماري.

عاد الغضبُ المكتومُ إلى وجه ماري، وبدا أننا عدنا إلى المربّع الأوّل، وعادت الحواجز كلُّها أصلبَ من السّابق.

"هذه اللكنة هي ما تبقّى لي من لغتي الأصليّة".. قالت بغضب ممزوجٍ بخيبة الأمل، وازدحمتْ عيناها بدموعٍ لم تنزل.

 

ما سأعرفُه لاحقا، هو أنّ ماري كانت إحدى من أُجبِروا على دخول "المدارس الداخليّة" التي أنشأها الرجلُ الأبيض لتغريب وتمسيح السّكان الأصليّين. أُخذَتْ ماري من عائلتِها عنوة إلى المدرسة، ووُضع والدُها في السّجن لأنّه حاول مقاومة ذلك. في المدرسة، قصّوا جدائلَها، وأخذوا حليَّها وثيابَها التقليديّة وألبسوها زيّ المدرسة الموحّد الباهت. كانوا يضربونَها كلّما حاولت الحديثَ بلغتِها الأصليّة، حتّى نسيتْها تماما. حاولت أن تتعلّمَها بعد أن كبرت وخرجت من المدرسة، ولم تُدركْ منها إلا بعضَ الكلمات والجمل البسيطة، ولكنةً خفيفة. أخبرتني أنّها تبكي كلّما سمعت لغتَها ولم تستطع أن تفهمَها.

 

وجدتُ نفسي أمامَ مفارقة في غاية الأسى. ها نحن، ماري وأنا، نتواصلَ بلغة غريبة على كلّ منّا. أنا تعلمتُها رغبة وأعتبرُها امتيازا لي، وهي تعلَّمَتْها قسرا وتعتبرُها عدوانا عليها. لَكنَتي التي آملُ أن يتضاءلَ وضوحُها مع الوقت تعتبرُها ماري جزءا من هويتِها وتُجاهدُ لتحتفظَ به. بدا حديثُنا بالإنجليزيّة اغترابا مُضاعَفا.

 

أرتني صورة للمقبرة التابعة لمدرستِها الداخليّة. قبورٌ دُفن فيها الأطفال الذين ماتوا أثناء وجودِهم في المدرسة. كانت شواهدُ القبور كلّها تحمل اسما أولَ أوروبّيا، جون أو ساندي أو كاترين، واسما ثانيا أصليّا، مثل "حبل العشب" أو "يقودُ الحصان". بدا مُفزِعاً حقّاً أن يكونَ هؤلاء الأطفال قد ماتوا وهم في مدرسة، وبدا أكثر فزعا أنّ شواهدَ قبورِهم تحملُ أسماءً مفروضة.

 

"ماري" لم يكنِ اسمَها. في المدرسة، وكما كانوا يفعلون مع جميع "التلاميذ"، اختاروا لها اسما أوروبّيا، أو "مسيحيّا" كما كانوا يُسمّونَه، وأبقَوا على اسمِها الثّاني، لكنّهم اعتبروه اسمَها الأخير، او اسم العائلة، حسب نظام التسمية الأمريكي. لم تكن قبيلتُها تعرفُ شيئا اسمُه "الاسم الأخير"، فكلّ شخصٍ فيها كان يحملُ عدّة أسماء خلالَ حياتِه. كان "تجدُ السّماء" هو اسمَها الأول. حدّثتني أنّ أمّها ولدتْها في الهواء الطّلق، وأنّها فتحتْ عينيها على اتّساعِهما فورَ ولادتِها، وبدت تنظرُ للأعلى بدهشة، كأنّها تكتشف السّماء. والدُها قال ملهوفا: "إنها تجدُ السّماء"، فكانَ هذا هو اسمَها. "ماري" كان اختيار الرجل الأبيض لها.

 

جرّبتْ ماري الكثيرَ من مضادّات الاكتئاب ومُثبِّتات المزاج قبل أن تصلَ إليّ. لم يكن من بين أدويتِها للأسف ما يُعيدُ لها لغتَها الضّائعة، أو أرضَ أهلِها المسروقة، أو طقوسَها المندثِرة، أو ما يُخلِّصُها من اسمٍ لم تخترْه

"أنتَ مُسلِم؟" .. سألتني ماري. الحديثُ عن "الأسماء المسيحيّة" أحضرَ الدّين، الحاضرَ الغائبَ في كلّ حوار ثقافيّ، إلى الواجهة.

"نعم" .. أجبتُها، وأنا أنظرُ إلى خانة "الديانة" التي تركتْها ماري فارغة في ملفّها الطّبّي. لم يكن هذا نادرا، فكثيرون يمتنعون عن تحديد ديانتِهم، لكن، وككلّ ما يتعلّق بماري، كان وراءَه قصّة.

 

كنتُ أظنّ أنّ السكّان الأصليّين يُكنّون الودَّ للاتينيّين، أو "الهيسبانيك" كما يُسمَّون هنا. لكن، وككثيرٍ من قبائل السّكان الأصليّين في الجنوبَ الأمريكيّ، كان الإسبان القادمون من أوروبّا عبرَ أمريكا اللاتينيّة هم من قتلوهم وعذّبوهم وأخذوا أراضيَهم. وفوق ذلك، عرّضوهم لما يُشبهُ محاكمَ التّفتيش في الأندلس. أخبرتني ماري، بوجهِها الحائر بين الغضبِ واللامبالاة، أنّ قبيلتَها كانت تتناقلُ طقوسَ الديانة الأصليّة سرّا ومُشافَهة، بعيدا عن أعين الغازين الإسبان. أخبرتني كذلك أنّهم أدخلوا عناصرَ من ديانتِهم في طقوسِهم المسيحيّة كي يحموها من الضّياع. للحظة، بدت ماري أمامي موريسكيّةً مستتِرة عبرَت محيطا كاملا وخمسة قرون.

***

كلُّ هذا حصلَ قبلَ أن أعلمَ لمَ جاءت ماري إليّ.

"اكتئاب". قالتها وهي تشعرُ بسخف الكلمة إزاء ما تُحسُّ به حقيقة.

بادلتُها الشّعور نفسَه. بدا مُفزِعا لي أن يُختصَر هذا التّاريخُ المُرّ في كلمة بهذا القدر من الإجرائيّة.

 

جرّبتْ ماري الكثيرَ من مضادّات الاكتئاب ومُثبِّتات المزاج قبل أن تصلَ إليّ. لم يكن من بين أدويتِها للأسف ما يُعيدُ لها لغتَها الضّائعة، أو أرضَ أهلِها المسروقة، أو طقوسَها المندثِرة، أو ما يُخلِّصُها من اسمٍ لم تخترْه. حاولت ماري الانتحار عدّةَ مرّات. قالت لي إنّها لا تعلم فيما لو كان بلوغُها الخمسين قد جعلَها أقلّ رغبة في الموت أو أكثر رغبة فيه. في الشّباب، لم تحتملِ الأملَ في أنّ القادمَ يُمكنُ أن يكونَ أفضل، وفي مَشيبِها، لم تحتمل الأسى على عمرِها الذي كان يمكن أن يكون أفضل.

***

غادرت ماري العيادة بعدَ ساعة مُنهِكة. كانت إحدى مرّتَين فقط سأراها فيهما.

بعدَ أسبوع، تلقّيتُ اتّصالا من شخص يسألني إن كنت الدكتور "يايا" كما تركتُ للأمريكيّين أن ينطقوا اسمي، بعد أن كانت محاولاتُهم لنطق "الحاء" تستهلكُ نصفَ اللقاء الأول، وتُطلقُ كثيرا من اللُّعاب بلا جدوى.

كان يُخبرُني أن مريضتي "ماري" في العناية المركّزة، حيث دخلتْها الليلة الماضية بعد تفاقم في الفشل الكلويّ الذي تُعاني منه منذ سنوات. أخبرَني أنّها تُريد أن تراني.

أسرعتُ من فوري إلى حيث وجدتُها بين الصّحو والغيبوبة. زادَ المرضُ وجهَها تجعُّدا، وأضافَ إليها عقدا آخر من السّنوات.

 

اقتربتُ منها، ولاحظت وجودي.

"هل هناك ما يُمكنُ أن أفعلَه؟" سألتُها.

"هل يمكن أن تطلبَ منهم أن يعيدوا ربطَ جدائلي؟" 

نظرتُ إلى الممرّضة الواقفة بجوارِها، ورجوتُها صامتا أن تفعل. راقبتُها وهي تُرخي ابتسامتَها شيئا فشيئا، ونبضُها يتباطأُ مع كلّ عقدة تربطُها الممرّضة في جدائلِها. نظرتُ إلى الممرّضة، ففهِمَتْ أني أتساءلُ عمّا لو كانوا سينعشونَها، وأجابتني بنظرة فهمتُ منها أنّ ماري اختارت أن يتركوها تمضي بسلام. لم أستغرب.

ظلّ نبضُها يتباطأ وجدائلُها تنعقدُ، وبقيتُ أنظرُ إلى وجهِها وهي تمضي بعيدا. كنتُ مطمئنّا وأنا أجدُ في وجهِها الأرض، فيما هي "تجدُ السّماء".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.