شعار قسم مدونات

المُوَقِّعون عن السلطان

blogs شيوخ

كَتَب الإمام ابن قَيّم الجوزية كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لتحقيق غرضين: الأول بيان خطر الفتوى وعِظَمها وأنها توقيعٌ عن الله وقيامٌ مقام النبي صلى الله عليه وسلم المُبَلّغ عن الله رسالتَه (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله)، والثاني: تحذير المفتين من التساهل في الفتوى.

 

وإذا كان المجال الديني قد عَرف – قبل الدولة الحديثة – أدوارًا وتخصصات منضبطة تَمايز فيها الوعظ عن الفتوى والقضاء والإمامة، فإن هذه الفروق والتمايزات قد تلاشت في ظل الدولة القومية، خصوصًا مع الاصطراع على المجال العام في ظل دول ناشئة وتعاني من نقصان الشرعية وتواجه معارضة واحتجاجات تتخذ طابعًا دينيًّا إسلاميًّا.

 

تَنبّه نظام جمال عبد الناصر ومن اتبع سُنّته إلى أهمية تشكيل "خطاب ديني" موازٍ للخطاب الاحتجاجي الإسلامي، ومنذ ذلك الوقت كان علينا أن نواجه خطابين يزعم كل منهما الاستناد إلى المرجعية الدينية نفسها ويدعي تمثيل الإسلام الصحيح على أرض السياسة، وحين تبدو المبررات السياسية هشة ولا تَقوى على تسويغ أي سلوك تُستَدعى الفتوى لتقويتها وشرعنتها في مواجهة المعارضين الإسلاميين.

 

وفي هذا "الخطاب الديني" المُحدَث تتلاشى الحدود الواضحة بين ما هو حكم الله وما هو رأي الشيخ أو المفتي، وبين المسألة الدينية التي ينضبط فيها الاجتهادُ بمقاييس معروفة في علم أصول الفقه، والمسألة السياسية التي تخضع لاختيارات شخصية وأهواء وتحيزات فردية أو جماعاتية حيث غلَب إطار عمل "الجماعات الدينية" على الحقل الديني، وهو إطار أدنى بكثير من مستوى "الجماعة المسلمة" التي سيطرت على هاجس فقهاء ما قبل الدولة القومية.

 

في ليلة من ليالي 1996 جلس الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي في جامع تنكز بدمشق ليُلقي درسه الأسبوعي شارحًا لكتاب "كبرى اليقينيات الكونية"، إلا أنه صبّ جام غضبه على قناة الجزيرة قائلاً: "هي قناة صهيونية ولدي الوثائق التي تُبت ذلك". تكشفت هذه الواقعة عن طريقة تفكير رموز الخطاب الديني السلطوي بشكل عام وليس عن تفكير البوطي فقط، فالحدود تتلاشى بين "كبرى اليقينيات الكونية" و"الوثائق"، وبين وظيفة عالم الدين الشارح لكتاب في العقيدة الإسلامية وبين وظيفة المحلل السياسي أو المفتش الذي يبحث في الوثائق لإثبات معلومة ما تتصل بالشأن السياسي والإعلامي. والأهم هو السؤال عن مصادر هذه الوثائق وكيفية التأكد من صحتها وإمكان البناء عليها؟.

 

قناة الجزيرة التي لا تزال تقلق أنظمة الرأي الواحد (وما أريكم إلا ما أرى)، ما هي إلا نموذج تكرر باستمرار سواءٌ في حالة الشيخ البوطي الذي عَرَف بوثائقه أيضًا أن الثورة السورية هي مؤامرة صهيونية، أم في حالة غيره من أفراد ومؤسسات، وما حصار قطر والبيانات الدينية التي صدرت لتأييده وشرعنته إلا حلقة من المسلسل نفسه.

 

ولكن السؤال المطروح هنا هو ما المصادر  التي يستقي منها الداعية أو المفتي أو الهيئة معلوماته قبل أن يصوغ حكمه أو يبني موقفه تجاه قضية من القضايا؟ فإذا كانت مصادر معرفة الحكم الشرعيّ لمسألة دينية معروفةً لعامة المفتين، فإن الأمر ليس كذلك فيما يخص مسائل الشأن العام والسياسة التي يتهجم عليها أفرادٌ وهيئات مختلفة، وينتمون لحقول متعددة من الوعظ والدعوة والإفتاء ومؤسسات علمائية كبرى رسمية وشبه رسمية.

 

ثم إن الأمر لا يقف عند مجرد المصادر فقط، وإنما يتناول صفة هؤلاء الأشخاص وطبيعة تلك المؤسسات وكيفية تَشَكلها وكيف تُكتَسب عضويتها: بالانتخاب أو بالتعيين والاختيار، وما طبيعة صلتها بالسلطة في هذا البلد أو ذاك، وهل عضويتها تستند إلى مؤهلات محددة ومُعلنة؟، وما الآليات التي يتم اتباعها في صياغة أي موقف أو رأي أو بيان؟ والسؤال الأهم هو عن تمويلها ومصادر دعمها المالي والسياسي والإداري. فلا يمكن التعامل مع أي بيان أو موقف أو رأي ديني؛ بمجرد مناقشة نصه أو فحواه، بل يجب النظر في كل التفاصيل السابقة؛ خصوصًا إذا كان ذلك الرأي يتصل بالدول (خارجي) أو الشأن العام (داخلي) وفي عالم مضطرب ويزداد اضطرابًا بفعل الصراعات السياسية الداخلية والإقليمية والدولية.

 

وبالإضافة إلى السؤال عن مصادر المفتي وآليات عمل الفتوى وارتباطات الأفراد والمؤسسات ومصادر تمويلهم، اشترط العلماء في المفتي شروطًا منها أن يكون "صحيح التصرف والاستنباط مستيقظًا"، وأن يكون "قَيِّمًا بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية"، وما التحق بها على التفصيل؛ وأن يكون عالمًا باختلاف العلماء واتفاقهم، وأن يكون "فقيه النفس"؛ بأن يكون قادرًا على تصوير المسائل على وجهها، ثم نَقْل أحكامها بعد استتمام تصوير جَلِيّاتها وخَفِياتها.

 

ولكن لو طبقنا هذه الشرائط على المفتين بالشأن العام وأصحاب البيانات التي تُستَشهد فتشهد وتُستنطق فتنطق لما صحّ لهم شيء من هذا، فبعضهم يتسم بالغفلة السياسية، وآخرون يتحرون خلاف العلماء لدوافع سياسية وربما شخصية، ولا مجال للحديث عن "أدلة الأحكام" التي يطلقونها هنا أو هناك ما دامت السلطة وأجهزتها هي مصدر المعلومة اليقيني الذي لا تتم مناقشته فضلاً عن القدرة على مساءلته. أما "فقه النفس" فيكاد يكون معدومًا؛ نظرًا لعدم تأهيل هؤلاء في مجال العلوم السياسية والاجتماعية التي تمكنهم من تصوير مسائل الشأن العام على وجهها، ومع كل ذلك يَتَقَحمون الفتوى في المجال العام رَغَبًا ورَهَبًا!.

 

أصبح من الضروري في تَلَقي أي فتوى أو بيان ديني قراءته بالنظر إلى العلاقة بين الفاعلين الآخرين في المؤسسة الدينية وعلاقتهم بنظام السلطة

وقديمًا بحث العلماء أيضًا في المؤثرات التي قد تعود على الفتوى بالخطأ أو الخلل فقالوا: إنه يجب ألا يُسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، وليس له أن يفتي في كل حالةٍ تُغيِّر خُلُقه وتَشغل قلبه وتمنعه من التثبت والتأمل، كالغضب والفرح الغالب والنعاس والحَر المزعج والبرد المؤلم، فمهما أحسَّ باشتغال قلبه وخروجه عن حد الاعتدال أمسك عن الفتيا، فكيف بنا اليوم وهؤلاء الموقعون عن الله "بشرٌ" يتنازعهم ما يتنازع غيرهم من رغبات وشهوات واختيارات شخصية بحتة (وهي التي تسمى الهَوَى)، ويضغط عليهم تسجيل المواقف وإرضاء السلطة أو إثبات الولاء لها، وقد تحول ما يُغَيُّر خُلُق الموقّع عن الله من "حالة" عارضة يتم تجنبها ودفعها إلى "سلوك" عام واصطفافات وتحالفات دينية-سياسية ضمن سياسات دول وأنظمة، وهذا ما يفسر غياب الانضباط المنهجي والتقلّب في الحكم الواحد لا عن تَغَيُّر اجتهاد؛ بل لأن سياسة المصالح الشخصية والسلطوية تَفرض مثل تلك التغيرات التي توقع في الاضطراب والتناقض، وعبثًا يبحث أتباع هذا الشيخ أو ذاك عن تفسير متماسك لآراء ومواقف الشيوخ.

 

وإذا كان العلماء قد وضعوا قديمًا ضوابط وشروطًا محددة للفتوى والفرق بينها وبين الحكم القضائي، فإن البيانات والصياغات الدينية تتخفف كثيرًا من تلك الضوابط، وتختلط فيها الفتوى بالرأي السياسي والاختيار الشخصي والتحزب أو الخضوع وأحيانًا المسارعة في الأهواء لإرضاء السلطة أو للاستثمار في موقف، وكل ذلك يُوقَّع باسم الشرع دون أي تمييز أو تفريق!.

 

لأجل ما سبق كله أصبح من الضروري في تَلَقي أي فتوى أو بيان ديني قراءته بالنظر إلى العلاقة بين الفاعلين الآخرين في المؤسسة الدينية وعلاقتهم بنظام السلطة، والصراعات فيما بينهم، ودراسة تحيزاتهم ومواقفهم وانتماءاتهم، أي دراسة سيرتهم، بالإضافة إلى ما تَقَدَّم من كلام عن آلية العمل ومصادر المعلومات والتمويل، وضرورة اتساق المفتي الواحد أو الجهة الواحدة في منهجها وبياناتها وفتاواها في قضايا مختلفة، فإذا كانت فتاواها وبيانات لا تُطل إلا من شُرفة السلطة التي تنتمي إليها أو تمولها، ولا تخاطب إلا المستضعفين من الناس: فهي توقع عن السلطان لا عن الله. 

 

كانت وظيفة العلماء الربانيين هي التوسط بين الحكام والمحكومين؛ ولذلك نشأت أدبيات عديدة حول كراهية الدخول على السلطان، وكانوا يذمون من يتردد على السلاطين، فكيف بمن يعمل عندهم ويسعى في خدمتهم وتسويغ باطلهم، ويرفع السلطان على القرآن؟!.

 

تنعدم الحرية أو يَضيق هامشها، والتعبير فيها مُكْلِفٌ؛ فقد يكون ثمنه تفويتَ مَغنم أو حصولَ مَغرم، وفي نهاية المطاف هي مؤمنة في الشأن التعبدي وعلمانية في الشأن العام!

لقد تم رفع الرأي السياسي للمفتي أو الداعية (وهو في الحقيقة رأي السلطان) إلى مرتبة الفتوى، ولكن تم التخلي عن مناهج الفتوى ولغتها في صياغته، فإذا كانت الفتوى يتم التشدد والتحوط فيها (تَذَكروا معركة الأزهر ضد اشتراط التوثيق لوقوع الطلاق) فإن الرأي السياسي يتم التساهل فيه إلى أقصى درجة (الوقائع كثيرة: حرق الجثث، سجن الآلاف وتعذيبهم، الانقلاب على الديمقراطية، استخدام الكيماوي ضد المدنيين، … حصار قطر)، بينما كان الموقع عن الله قديمًا "لا يُفتي في شيء من المسائل حتى يَلحظ الدليل"، وكان يُبَيِّن الحكم "بيانًا مُزيحًا للإشكال". أما بيانات الموقعين عن السلطان فهي بيانات مثيرةٌ لكثير من الإشكالات، فلا تعرف دليلاً ولا تزيح إشكالاً، وهي تكشف عن حال المفتي لا عن حال الحكم.

 

فالآراء السياسية كانت في السابق أخفّ حدةً وأكثر خفاءً، إلا أنها مع الثورة والثورة المضادة باتت أكثر وضوحًا وجلاءً؛ وهذا يرجع إلى ضخامة حدَث الثورة نفسه والذي لم يكن يقبل بأنصاف الحلول، ولأن زعماء الثورة المضادة يَفرضون آراءاهم بصلَف المستبدين واستعلاء المذعورين؛ مما يوقع رَعِيَّتهم من المشايخ في مواقف فجة تفتقر إلى الذكاء والخفاء الذي كان سائدًا من قبل.

 

ومن اللافت أن بعض الأفراد والهيئات التي توقع عن السلطان في الشأن العام، تتشدد في التوقيع عن الله في الشأن التعبدي الخاص؛ لأن ثمة تقليدًا علميًّا له سلطة ويعبر عن نفسه بحرية كبيرة، على خلاف الفتوى في المسائل السياسية والشأن العام حيث يغيب التقليد والتنظير الواضح لمثل هذا النوع، كما أنه تنعدم الحرية أو يَضيق هامشها، والتعبير فيها مُكْلِفٌ؛ فقد يكون ثمنه تفويتَ مَغنم أو  حصولَ مَغرم، وفي نهاية المطاف هي مؤمنة في الشأن التعبدي وعلمانية في الشأن العام!

 

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.