شعار قسم مدونات

عن التفكير في الإيمان

blogs - البكاء في الصلاة

إذا كانت الحقيقة النهائية بين أيدينا فبماذا سنؤمن؟ بالنسبة للتدين التقليدي فإن الحقيقة النهائية موجودة سلفا بين أيدينا، والتسليم بها هو واجبٌ ديني. أي أنها ليست أمرا يتوقف على الفكر الإنساني، وليست شيئا يمكن أن نكتشفه بأنفسنا أو لا نكتشفه، أو نقترب منه أو لا نقترب، أو نمشي نحوه أو لا نمشي، وليست شيئا يوجد أو لا يوجد، بل هي شيء موجود ومعروف مسبقا. الايمان هنا هو التسليم بما هو حقٌ بالضرورة، بمعنى أنه ليس تسليما بحقيقة دينية إيمانية، وإنما بحقيقة واقعية نهائية. ومن هنا يأتي الاعتقاد بامتلاك الحقيقة، وهو اعتقادٌ منافٍ لطبيعة الايمان نفسها.

 

المشكلة هنا هي عدم القدرة على التفكير في الايمان في ذاته. فبغض النظر عن موضوعات الايمان، يملك الايمان كشيء في ذاته ماهية يمكن التفكير فيها. فحين نتساءل ما هو الإيمان كفعل إنساني، فالمقصود هنا الايمان بحد ذاته بمعزل عن الموضوعات والقضايا التي يتعلق بها.

 

ولكن كلمة "إيمان" ارتبطت في الفكر الديني بالموضوعات والقضايا والأعمال، بحيث إذا قلنا "ما هو الايمان؟ " فإن الذي يتبادر الى العقل هو قضايا الاعتقاد والأعمال. أي أن المعنى الاصطلاحي للإيمان هو المسيطر على العقل، بينما المعنى اللغوي والفلسفي في الهامش. ولذلك لا يمكننا التفكير فلسفيا في الإيمان الديني بواسطة اللغة الدينية، أي لا يمكننا التفكير في الدين بالدين نفسه.

 

وهنا يمكن ان يقوم اعتراض بأن مفهوم الايمان قد تكوَّن في الحقل الديني أساسا، و لا وجود له الآن خارج هذا الحقل تقريبا، وبالتالي فلا يمكننا الكلام عن الإيمان كمفهوم في ذاته، لأنه يوجد دائما كإيمان ديني. وهناك بالطبع استخدامات للكلمة في اللغة اليومية العادية، ولكننا معنيون هنا بالمعنى الذي يتعلق بالمعرفة الدينية. بيد أن المطلوب هو التفكير في ماهية أو طبيعة الايمان بشكل عقلاني، أي بشكل مستقل عن الدلالة الدينية للكلمة وحمولاتها النفسية، وليس تكريس معنى فلسفي جديد للإيمان.

 

في الواقع هناك تلازم وثيق بين الشِّقين المعرفي والعملي في المعنى الاصطلاحي الديني للإيمان، الأمر الذي يؤدي إلى تلاشي تلك المسافة النقدية الفاصلة التي تسمح بالوعي بالإيمان كشيء في ذاته. ذلك أن الشق العملي للإيمان والمعبَّر عنه في الواقع بواسطة الشعائر والأخلاق والتشريعات، يجعل قضايا الايمان المعرفية تبدو كما لو أنها متجسدة هي أيضا في الواقع، بحيث لا يعدو التسليم بها أن يكون تسليما بما هو موجود بالضرورة وواجب.

 

فالتفكير في الإيمان الديني هنا ليس تفكيرا في قضية فلسفية مجردة، بل هو تفكير في نظام حياة كامل، بل في ما هو أكثر من ذلك، تفكير في الوجود ما قبل الحياة وما بعد الموت. وبالنسبة لإنسان مولود على ديانة كالإسلام فإن قضايا الإيمان هي ليست مواضيع للبحث والتفكير، أي ليست نتائج يتوصل اليها الإنسان، ولكنها تنتصب كحقائق ثابته مقدسة منذ البداية، بحيث لا تكون قضية الإيمان متعلقة بما ورائها، وإنما بها هي في ذاتها، مثلا الإيمان بالكتاب هو إيمان بشيء موجود محسوس ومقدس، أي أن الإيمان يكون في البداية على الأقل هو إيمان بالنصوص الدينية وبالعقائد كشيء قائم في الواقع، على أنها هي الحقيقة النهائية متجسدة على الأرض، لا على أنها هي في ذاتها إيمان. وفي مرحلة لاحقة قد تكتسب تلك العقائد مشروعية جديدة بالعقل أو بالتجربة، أو قد تتم قراءتها قراءات جديدة.

 

إن المسافة بين النسبي والمطلق هي مسافة داخل الوعي الإنساني، وليست خارجه، وأن المطلق نفسه ينتمي إلى الوعي كفكرة. ولذلك فإن "الحقيقة النهائية" لا يمكن أن تكون بين أيدينا

إن الفرق شاسع بين الإيمان بالنصوص الدينية وبالعقائد، وبين الإيمان بمطلق مفارق لهذه النصوص والعقائد وليس حالًّا متجسدا فيها. ولكن هذا الفرق ليس هو كل شيء، فالتمييز بين ما هو مطلق وما هو نسبي في الدين قد يبقى تمييزا داخل الفكر الديني نفسه. أي أن هذا التمييز، مع انه أكثر تقدما من الناحية العقلانية، إلا أنه يبقى داخل حدود الايمان الديني. فحينما نقول مثلا هناك مسافة بين الكمال الإلهي من جهة والدين من جهة أُخرى على اعتبار أن الأخير متجسد في لغة بشرية وفي فكر بشري وممارسة بشرية، فإننا نظل داخل نطاق الايمان الديني، مع أن هذه الرؤية أكثر عقلانية من أي رؤية تلغي هذه المسافة، بحيث يبدو النصّ الديني متطابقا مع المطلق والذي هو إيمان في النهاية.

 

حينما نفكِّر في الإيمان "في ذاته"، فنحن نقف خارج حدود الفكر الديني، أو على الأقل باستقلال عنه. هنا تنوجد مسافة أُخرى، مسافة خارجية، قائمة بين الإنسان والإيمان الديني كشيء يدخل فيه، ولكن هذه المرة كإيمان واعٍ بذاته، إيمان إنسان لا يعتقد بامتلاك الحقيقة بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، وليس بذلك الادعاء الذي يدعيه البعض، أعني عدم امتلاك الحقيقة، ويقصدون به أن إيمانهم "حقيقي" ولكنهم لا يستطيعون أن يبرهنوا على ذلك، أي انهم يعتقدون فعلا بأنهم بشكل ما يملكون الحقيقية النهائية والذي ينقصهم فقط هو البرهان على ذلك، وأن المسألة هي فقط أنه غير ممكن الآن، ولأسباب تتعلق بطبيعة هذه الحقيقة ذاتها!

 

إن الوعي بالإيمان لا يتعلق فقط بادراك الفرق بين الحقيقة كما نؤمن بها، وبين الحقيقة في ذاتها، وإنما بإدراك أن هذه "الحقيقة في ذاتها" هي أيضا إيمان. أي أن المسافة بين النسبي والمطلق هي مسافة داخل الوعي الإنساني، وليست خارجه، وأن المطلق نفسه ينتمي إلى الوعي كفكرة. ولذلك فإن "الحقيقة النهائية" لا يمكن أن تكون بين أيدينا، وهذا ما يجعل الإيمان ممكنا، كتعلُّق بشيء لا نمسك به ولكن نسعى أو نتوجه نحوه. أما ذلك الاعتقاد الذي لا يقبل الشك بامتلاك الحقيقة النهائية، فلا يمكن أن يكون إيمانا، وإن تسمى بذلك.  

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.