شعار قسم مدونات

(2) فشار فكري مع فيلم The Book of Eli

blogs - فيلم أجنبي
ونكمل ملاحظاتنا عن فيلم The Book of Eli
القضية الثانية: يقول الملحدون إن الدين هو سبب الحروب والدمار:
لذا تمّ إحراق وإتلاف جميع نسخ الكتب الدينية بيد أن أناسا قالوا إن هذا الكتاب وأمثاله هو سبب الحروب والدمار.. هكذا علّل إيلاي سبب اختفاء هذه الكتب. ولكن هل ما يردده الملاحدة صحيح؟ إن الحروب التي حدثت من أجل الدين الصحيح لم تكن يوماً سبباً في الخراب والدمار، بل للبناء والازدهار، والفتوحات الإسلامية خير شاهدٍ على ذلك بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء. أما الحروب التي استغل فيها الدين واستخدم ذريعة للأطماع والأهواء، فلا شك أنها كانت من أسباب الدمار، لكن الدين منها براء. ثم إن كثيراً من الحروب لا علاقة لها بالدين، بل إن من أوقد أوارها ملحدون لا يعرفون ديناً أو عنصريون متعصبون لأعراقهم وجنسهم، أمثال ستالين الشيوعي الملحد، وهتلر العنصري المتعصب للجنس الآري!

وماذا عن رئيس صربيا ويوغوسلافيا السابق سلوبودان ميلوسوفيتش الملحد الشيوعي، والذي لم يحضر أي رجل دين مراسم دفنه بسبب إلحاده! هذا المجرم الذي شجع الصرب على ممارسة التطهير العرقي في البوسنة والهرسك، فأذاق المسلمين الويلات وأباد قرى مسلمة بأكلمها وأحرق أكباد المسلمين بطول العالم وعرضه في التسعينيات من القرن الماضي، وأرّق كل المصلحين وأذاب عقول أهل البوسنة، وجعل من هتك الأعراض وإهلاك الحرث والنسل غاية في حياته! وماذا عن الملحد الإرهابي بول بوت الذي قتل مئات الآلاف من الكمبوديين؟ وماذا عن الرئيس الصيني ماو تسي تونج الشيوعي؟

في موسوعة Encyclopedia of war يوثق العالمان تشارلز فيليبس وآلان أكسيلرود عدد الحروب التي ذكرت في التاريخ بنحو 1763 حرباً منها 123 حرباً مصنفة لأسباب دينية، أما بقية الحروب فلأسباب أخرى. وفي بحث نشره معهد نيويورك وسيدني للاقتصاد والسلام في أكتوبر، تبين أنه عموماً لا توجد علاقة بين الدين والنزاعات في أي من الحروب التي اندلعت في 2013. ومن بين خمسة وثلاثين نزاعاً مسلحاً خمسة فقط كانت أسبابها المباشرة مرتبطة بالدين. في حين غاب العامل الديني تماماً في أربع عشرة حالة أخرى. واشتركت جميع الحالات قيد الدراسة في تعدد مسبباتها، وكانت أكثر الأسباب شيوعاً هي ما تعلق بمعارضة الحكومة أو النظام الاقتصادي أو الأيديولوجي أو السياسي أو الاجتماعي للدولة حيث برزت في ثلثي الحالات التي تمت دراستها.

جاء في صدر الترجمة التفسيرية للأناجيل: شاء الروح القدس في القرن الأول الميلادي أن يوحي إلى أربعة رجال أن يدونوا الإنجيل، فتولى كل منهم التركيز على جانب معين من جوانب حياة يسوع وشخصيته الفريدة(2) ولكن الحقيقة أنه لم يقل أحدٌ من كتبة الأناجيل أنه كتبه بوحي أو إلهام من الروح القدس!

القضية الثالثة: طرح الفيلم كذلك مسألة (استخدام الدين) في السيطرة على الناس:
فقد كان كارنيجي الذي كان قد بنى بلدة متداعية ويشرف عليها، كان يبحث عن هذه النسخة الوحيدة، حيث كان يحلم في بناء المزيد من المدن والسيطرة على الناس، عن طريق استخدام هذا الكتاب، الذي يقول عنه بأنه يستطيع أن يؤثر في الناس ويسلموا له، لأن له قوة سحرية أكثر قوة ونفعاً من استخدام العنف والخوف والأسلحة! وهذا يضعنا إزاء أولئك الذين يستخدمون الدين لأغراض سياسية ونفعية وبراغماتية، مستخدمين كل الحيل والذرائع لتبرير أعمالهم وأهواءهم بالدين والدفاع عنه والانتصار له!
والأمثلة إذا ذهبنا نسردها كثيرة جداً!

القضية الرابعة: مسألة كتابة الإنجيل من الذاكرة:
قلنا إن كارنيجي استطاع أن يأخذ نسخة الإنجيل من إيلاي، ولكن إيلاي لم يتوقف، بل واصل سيره إلى المكان المقرر دون الكتاب، وعندما وصل قام بإملاء الكتاب المقدس من ذاكرته! وهذه النقطة ـ كتابة الإنجيل من الذاكرة تعيد إلينا إشكالية قديمة، وذلك أن المسيح عليه السلام لم يترك قانوناً مكتوباً كما يقول البروفسور عبدالأحد داود وكان إنجيله مكتوبة على صفحة قلبه، وبلغ رسالته عن (البشارة) ليس كتابة بل شفاهاً(1) فمن أين جاءت تلك الأناجيل؟ الثابت أن هذه الأناجيل أو الأسفار كُتبت بعد المسيح عليه السلام.
فإنجيل مرقس من المحتمل أن يكون قد كُتب بعد سنة 70م بفترة وجيزة.
وإنجيل متى من المحتمل أن تكون كتابته قد تمت حوالي عام 80م.
وإنجيل لوقا من المحتمل أن يكون قد كُتب حوالي عام 85م.
وإنجيل يوحنا من المحتمل أن تكون كتابته قد تمت بين عام 90 و110م.
وكذا أعمال الرُّسُل في حوالي عام 85م.

وقد اعترفت النصارى بذلك، فقد جاء في صدر الترجمة التفسيرية للأناجيل 1983: شاء الروح القدس في القرن الأول الميلادي أن يوحي إلى أربعة رجال أن يدونوا الإنجيل، فتولى كل منهم التركيز على جانب معين من جوانب حياة يسوع وشخصيته الفريدة (2) ولكن الحقيقة أنه لم يقل أحدٌ من كتبة الأناجيل أنه كتبه بوحي أو إلهام من الروح القدس! بل إن لوقا صاحب الإنجيل الثالث يفاجئنا في افتتاحية إنجيله بنسف هذا الادعاء من أساسه، فيقول ذاكراً سبب تأليفه له: (لأن كثيراً من الناس أخذوا يدونون رواية الأحداث التي جرت بيننا، كما نقلها إلينا الذين كانوا من البدء شهود عيان وخداماً للكلمة، رأيت أنا أيضاً، بعدما تتبعت كل شيء من أصوله بتدقيق، أن أكتبها إليك، يا صاحب العزة ثافيلس، حسب ترتبيها الصحيح، حتى تعرف صحة التعليم الذي تلقيته) لوقا: 1/1 ـ 4

وهذه الافتتاحية للوقا تفتح الباب لعدة ملاحظات:
1ـ يقرر أن كثيرين قد أخذوا في تأليف أناجيل، وهذا يعني أنه ليس الوحيد في هذا المجال، وكما هو واضح من اجتماع مجمع نيقية سنة 325 م، الذي دعا إليه قسطنطين، حيث أعلنوا فيه عقيدة التثليت، كما أقرّ فيه الأناجيل الأربعة (متى، مرقس، لوقا، يوحنا) من بين أكثر من مائة إنجيل، منها إنجيل برنابا وإنجيل مريم وإنجيل الاغنسطي وإنجيل السبعين وإنجيل التذكرة وسفر أخنوخ، وسمّيت الأناجيل المنتخبة بالأناجيل القانونية.

لا نقرأ لأي من أصحاب الأناجيل الثلاثة (متى ومرقس ويوحنا) أنهم ادعوا أو قالوا بأنهم كتبوا الأسفار بوحي من الروح القدس، ولو كان ما كتبوه وحياً من الله لذكروه في مقدمة أسفارهم، وبهذا تكون هذه الأسفار أكثر مدعاة إلى القبول والتصديق، لكن ذلك لم يحدث.

2ـ يقرر لوقا أن هذا العمل الذي قام به هو بدافع شخصي، حتى تصل المعلومات إلى ثاوفيلس، ولم يدع أنه كتبه بإلهام من الروح القدس، بل يقرر بصراحة أن معلوماته جاءت نتيجة لاجتهاده الشخصي، حيث انه قد تتبع كل شيء من الأول بتدقيق.
3ـ كما أنه يقرر أنه لم ير المسيح ولم يتتلمذ عليه، لكنه كتب رسالته بناء على المعلومات التي تسلمها من الذين عاينوا المسيح، وكانوا في خدمته.

كما أننا لا نقرأ لأي من أصحاب الأناجيل الثلاثة (متى ومرقس ويوحنا) أنهم ادعوا أو قالوا بأنهم كتبوا الأسفار بوحي من الروح القدس، ولو كان ما كتبوه وحياً من الله لذكروه في مقدمة أسفارهم، وبهذا تكون هذه الأسفار أكثر مدعاة إلى القبول والتصديق، لكن ذلك لم يحدث فضلاً عن نسف لوقا لهذا الادعاء من أساسه.

وليس بعد كلام صاحب الشأن من كلام. يقول الدكتور موريس بوكاي: لا أستطيع أن أقبل بأن يقال بصحة وبإلهام الله لنص أقرأ فيه أن عشرين فقط من الأجيال عاشت بين أول إنسان وإبراهيم(3) كما أن الأشخاص الذين كتبوا الأناجيل يكتنفهم الغموض والإشكال!
علبة فشاري فرغت، فماذا عن علبكم؟
__________________________________________

– هامش:
1ـ عبدالأحد داود، محمد في الكتاب المقدس، قطر، ط3، 1990.
2ـ مقارنة الأديان، محمد عبدالله الشرقاوي، مكتبة الجيل ـ بيروت، 1990، ص28.
3ـ القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم، موريس بوكاي، القاهرة، 2004، ص107.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.