شعار قسم مدونات

وتحسّرت يوم العيد

blogs صلاة

طرقَت تكبيرات العيد مَسامِعَها، وهي في الفِراش مستغرقةً في نومها، لتوقظها بفرحةٍ واستبشارٍ لا مثيل لهما سائِر الأيام، أسرعَت متجِهةً نحو سرور العيد وبهجة أجوائه، أخذَتْها خطواتها تجاه خزانة ملابسها، فمدّت يدها لجوفها، والتقطت ملابس العيد، الجميلة والثّمينة والباهظة الثّمن لترتديها، ثم صفّفت شَعْرَها، ووضعت عِطرها، ومساحيق تجميلها، وبخفةٍ التفت للمِرآة، فإذا بها ترَى بدراً ليلة الخامسةَ عشرة، بل بدرٌ مزينٌ بأبهى الحلل.

تمعّنت في المِرآة أكثر، ودققت في التفاصيل أكثر، فشعرت بشيء غريبٍ حول عنقها، وخيالاتُ أغلالٍ لازلت تلتَف حولهُ، وغيومٌ سوداء تحيط بعقلها، ووحشٌ من الغم والضيق يجثو على قلبها، فَرَكَت عيناها جيّدًا، فتحتها وأغلقتها، وهزت رأسها يمنةً ويسرى، ثم تأمّلت في المِرآة جيداً، فلم تجد من الجمال إلا الملابس، ومن البهاء إلا بريق المجوهرات.. لكن هنالك أمرٌ غريب!!

إذا بصوتٍ يطرق مسامعها: "قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ"(المؤمنون)، بدأت تترَدَدُ هذه الآية في داخلها، وصوتٌ قويٌ من كُل الجهات ينادي: هذا يومُ العيد، يوم فرح المؤمنين بتوفيق الله، بتأييد الله، بنصر الله لهم في إقامة الطاعات وترك المَنهيّات والفضول في رمضان. فيوم العيد هو يوم الحساب الأصغر، يوم تَطايُر صُحُف رمضان، يوم يقول المؤمنون "هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ" (الحاقة)، ويوم يقول المفرّطون "يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ" (الحاقة)، لعلي أعمل صالحًا، لعليَ أتصدق وأكُن من الصالحين، مرّ عليها شريط رمضان بالكامل، فزاد وقع الآية على قلبها "لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ"(المؤمنون).

أعظم لوعةٍ كانت حينمًا استسْلَمَت لنفسها، نفسها التّي كانت في اختبار حقيقي خلال الشّهر، فقد تُرِكَت لمعدنها، ومدى خوفها واستشعارها لرقابة الله، لأن شيطانها مُصَفّدٌ مخسوء

منذ البداية وفي آخر ليلةٍ من شعبان، كانت منشغلةً بكلام الناس عن رمضان، وعن الاستعداد له، وعن الهالة التي يصنعونها له، هذه الهالة الملأى بفتوحات تفريغ الجيوب، ومخطاطات جَدْوَلةِ المسلسلات، قاومت صحيح كل هذا، لكنها أهملت شيئا مُهمًا جدًا وهو النية، النية التي (تُحقّر العمل أو تُعَظمّه)! ثم كانت كلما سمعت نصيحة أو موعظة عن الاستعداد لرمضان، تأثّرت تأثُراً شديداً، وذرفتِ الدموع، ثم إذا ما همّت بالفعل، تكاسلت وسوّفت وأجّلت، فشيطانها يَعِدٌها ويُمَنِّيها، والله يقول لها: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ"(آل عمران).

 

حتّى جاء رمضان وهي ذات قلبٍ خاوٍ، فاندفعت بكل همّة تريد أن تحصل كل الطاعات فجأة هكذا، دون أيّ استعدادٍ مسبق، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال فيها: "فإن المُنْبَتَّ لا أرضا قطع، ولا ظهرًا أبقى" البيهقي، والمنبت: هو الذي يواصل السير مواصلة مستمرة، ثم يكون من آثار مواصلته أنه يسير مثلاً خمسة أيام، ما أراح نفسه ولا أراح جمله، ففي هذه الخمسة يسير يقطع مسيرة خمسة عشر يومًا في خمسة أيام، ثم يَبْرُك به جمله، ويهزل وينقطع به، فينقطع في صحراء، فلا هو الذي رفق ببعيره حتى يوصله ولو بعد عشرين يومًا، ولا هو الذي قطع الأرض كلها، بل برك به بعيره في برية؛ وذلك لأنه كلّف نفسه، وكلف بعيره فسار عليه حتى أهزله، فهو لا أرضا قطع لا قطع الأرض كلها التي هي مسيرة شهر، ولا أبقى ظهره أي: ببعيره الذي يركب على ظهره. 

حضرت لها صورتها وهي تشقى شقاء الغريق في بجر لُجيّ، تتَفَنَنُ في تفاصيل المأكولات، وهيي مشكورةٌ مأجورةٌ لقيامها على الصائمين، ولكنّها كانت تستطيع اختصار الوقت في مطبخها، بدل أن تصنع طعاما يكفيها ويكفي حيّهم، والحيّ المُجاور لهم، فإذا أرادت قراءة القرآن بعد الفجر، وجَدَت نفسها متعبةً من السهر، وبعد الظهر مشغولة بالأطفال، وبعد العصر مشغولة في المطبخ، وربما في الليل ولكنّها مع القريبات والجلسات ملتزمة.

مسكينةٌ حقًا كم ضيّعت عليها من أجورٍ وفضائل، رمضان كان سببًا لعلّو منازل المؤمنين في الجنّات، في دخولهم من باب الريان، في ريّهِم يوم عطش الناس، مسكينةٌ لم تكن من الصائمات اللاتي أعدّ الله لهن أجرًا عظيمًا

والله يقول "أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ"(البقرة)، معدوداتٍ لاغتنام فرص الطاعات، لا فُرَص الوجبات والزيارات والطبخات، وأعظم لوعةٍ كانت حينمًا استسْلَمَت لنفسها، نفسها التّي كانت في اختبار حقيقي خلال الشّهر، فقد تُرِكَت لمعدنها، ومدى خوفها واستشعارها لرقابة الله، لأن شيطانها مُصَفّدٌ مخسوء.

حينما جرفها سير "الجميع يشاهد المسلسلات"، وياحسرتاه! وهي قد بدّلت وقوفها بين يدي الله في ليالي رمضان، وهو يتنزل توددًا لعباده، لأجل شهوة ومتعة الانسجام مع دراما ما يسمى في عرف الناس بـ "المسلسل"، ويسمى في شرع الله بـ "قول الزور والعمل به"، وهو الذي حينما تحدّث عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، احْمَّر وجه غاضبًا، وكان متّكأ فجلس، وبات يُكررها -صلوات ربي وسلامه عليه-، وهو يُعَدِدُ الكبائر ويقول: "ألا وقول الزور والعمل به" رواه مسلم.

"وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ"(الفرقان)، يومَ العيد على الذين ظلموا أنفسهم، يكون يوم حسرةٍ وندم، وإن لم يستشعِروا به نظرًا لقسوة قلوبهم، اكتووا بنار هذه الحسرة مراتٍ ومراتٍ يوم القيامة.. صديقتنا وهي ترجع بذاكرتها لرمضان، بدأت تُعدّد انغماسها في المُباحات: فضول الكلام، وفضول القراءة، وفضول المشاهدة، وفضول الإنترنت.. هؤلاء الفضوليون الذين يسرقون وقتها، تذّكرت ملامحهم واحدًا واحدًا، وكأنّ كلام الله يتنزّل عليها في لحظة التَّذْكِرَة هذه، حينما قال: "الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ"(الزخرف).

 

أقربهم كان هاتفها، الخليل الرفيق الذي لم يفارقها، مجموعات الدردشة والرفث، والنكت التّي جُلّها استهزاءٌ من الدين، أخَذَها من أعظم شعيرة في رمضان، يغفل عنها عامة المسلمون، وهي شعيرة التسحير، أهملتها وحتى حينما كانت تمارسها، كانت تمارسها كعادة واحتياج بيولوجي، لا كشعيرة عظيمة تُعَظّم كشعيرة الإفطار "ما زالت أمتي بخير ما عجلوا الفطور وأخروا السحور" رواه البخاري..

رمضان لم يغادرنا بعد، لازال هُناك وقتٌ للإصلاح، واستثمار ما تبقّى منه، والجد والاجتهاد في عشرته الأخيرة، فبادري يا أختي فإنّك مُبادَرٌ بك، وأسرعي فإنّك مسروعٌ بك، وجِدّي فإنّ الأمر جدّ، وتيقّظي من رقدَتِك

ندِمت على الدنانير التي صرفتها في أوجه التّرف: ترف الاكل واللبس والتّنعُم، ولم توجهها لمصارفها التّي أرشدتها لها السُنّة، فعجزت عن إثبات إيمانها في شكل عملي، في شكل "الصدقة"! أليست "الصدقة برهان" رواه مسلم، نزلت دموع ساخنة من عينيها، عرفت واعترفت، غرقت في ندمها وحسرتها، ندمت على عشوائيتها التي غرقت فيها، ولم تُخطِط تخطيطًا مُحكمًا لرمضان.

مسكينةٌ حقًا كم ضيّعت عليها من أجورٍ وفضائل، رمضان كان سببًا لعلّو منازل المؤمنين في الجنّات، في دخولهم من باب الريان، في ريّهِم يوم عطش الناس، مسكينةٌ لم تكن من الصائمات اللاتي أعدّ الله لهن أجرًا عظيمًا، مسكينةٌ تلك الفتاة كم نشفِقُ عليها، فهي لم تكن من المُتفوِقِين يوم العيد، بل رَسَبت بجدارة، وخسِرَت نفسها أمام نفسها.

والحقيقة التّي لا تخفى، أنّ هذه الفتاة هي في داخل كل واحدةٍ منّا، فكم ندمنا يوم العيد على التّفريط والتّقصير، لكنَ الندم لا يُرجع زمنًا قد مضى، فهذه سُنّة كونيّة ماضية ليوم الدين، فبعضنا من توجد في داخلها هذه الفتاة بنسبة 30/60/90 بالمائة، ومنّا 100بالمائة، والسعيدة فينا حقًا من قتلت هذه العادة، وهي عادة التّذكر بعد فوات الأوان، الآن رمضان لم يغادرنا بعد، لازال هُناك وقتٌ للإصلاح، واستثمار ما تبقّى منه، والجد والاجتهاد في عشرته الأخيرة، فبادري يا أختي فإنّك مُبادَرٌ بك، وأسرعي فإنّك مسروعٌ بك، وجِدّي فإنّ الأمر جدّ، وتيقّظي من رقدَتِك، وانتَبهي من غفلَتك، وتذكّري ما أسلفتِ وقصّرتِ وفرَّطتِ وجنيتِ وعملتِ، فإنَّه مُثبَتٌ محصى، فكأنّكِ بالأمر قد بغتَك فاغتُبِطتِ بما قدَّمت، أو ندمتِ على ما فرّطتِ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.