شعار قسم مدونات

تحايلوا على الهزيمة فأسموها نكسة

blogs نكسة 67
نكسة 67 (رويترز)
لم يكن الزمن العربي وقتها أكثر رداءة مما هو عليه الآن، ولم تكن معاول الاستبداد أشدّ وقعاً من شأنها الآن، ولم يكن عدد الجماهير المستعدة لغفران خطايا الحكام وتجرّع الوهن والاحتفاء بالإخفاقات أكبر من نظيرتها في وقتنا الحالي، كما لم يكن ذلك الزمان خالياً من الأحرار ومقفراً من الوعي، ففي كل زمن هناك شمعة تناوئ طوفان الظلام، كفّ تناطح المخرز، هامات حرّة لا تخضع لحاكم جائر، وعي متّقد يهتك ستر الزيف، حقيقة تناطح السراب، وأيضا.. ضحايا يصعد المستبدّ على جماجمهم، وتتطاير سهام مظلوميتهم لتُردي مشروعه خائباً منكسرا.
لكن لعل مصيبة الأمة وقتها كانت – في المقام الأول – في تضخّم رهانها على (الحاكم الأوحد) وفي اعتقادها الجازم -مشحونة بجرعات تضليل وتزييف تبثها وسائل إعلامه- بأنه غير قابل للانكسار، وبحتمية تحقيق شعاراته التي كان يطلقها فتداعب تلك الجراح الندية لمن كانوا حديثي صلة بهزيمة العرب الأولى في احتلال فلسطين عام 1948.
لم يمرّ النصر على الكيان المحتل وقتها من عقد حبال المشانق في سجون مصر في عهد عبد الناصر، ولم تفلح الشعارات في تقليل فداحة الهزيمة إلا لدى من كان مسكوناً بنزعات قومية موهومة فكانت قضيته الكبرى وكان بقاء عرّابها على عرشه هو عنوان النصر الوحيد في عرفه حتى لو ضاعت فلسطين واحتُلت القدس، وانهزمت جيوش العرب شرّ هزيمة.
غابت خلف أستار مُسمّى "النكسة" مفاهيم ومصطلحات كثيرة كان من شأن تداولها أن يحرّك الغضب في نفوس حديثة العهد بانكسارها الكبير، وأن يذكّر العربي بانسحاقه المهين، وبخيبته يوم راهن على قيادات منتفخة كالطبول، لكنها خاوية وجوفاء وذليلة

احتُلّت القدس، وتبدّد جلال مآذنها، وارتفعت النجمة السداسية في آفاقها لتورث فضاءها شحوباً لم يزل قائماً حتى اللحظة، بينما كانت أبواق الهزيمة تمارس عصفاً ذهنياً غير مسبوق، لا لتبحث في أسبابها وعوامل تجنّبها مستقبلاً أو تجاوزها، بل لتخرج للمستمع العربي مصطلحاً خفيف الوقع على سمعه ونفسه، يتحايل على الحقيقة ويطعنها في خاصرة مصداقيتها، فكانت: "النكسة". ظلّ هذا المصطلح المفخّخ يغزو عقول المفجوعين كلّ عام في الخامس من حزيران، ومناسبة أخرى تتطلب إحياءً ومراسم احتفالية حزينة، مثل كل الهزائم التي رصّعت جبين العروبة بالعار.

غابت خلف أستار مُسمّى "النكسة" مفاهيم ومصطلحات كثيرة كان من شأن تداولها أن يحرّك الغضب في نفوس حديثة العهد بانكسارها الكبير، وأن يذكّر العربي بانسحاقه المهين، وبخيبته يوم راهن على قيادات منتفخة كالطبول، لكنها خاوية وجوفاء وذليلة.
أما الإعلام الحديث فظلّ بدوره، حتى بعد الهزيمة بسنوات، يتعاطى هذا المخدّر "النكسة" ولم يحاول تجاوزها ليقرر أن ما حدث كان كارثة وفجيعة ومذَلّة تاريخية كبرى، فجيعة بالقادة الجبناء، بالخطابات الوضيعة، بالشعارات الكاذبة التي تدوّخ العقول وتسكّن وجع جراحها، وبالاعتبارات القومية الزائفة التي فشلت في جميع اختبارات أصالتها. والنتيجة، أنه ظل هناك حتى يومنا هذا من يمجّد صانعي الهزيمة والمتسببين بضياع القدس وتدنيس المسجد الأقصى وتشريد آلاف أخرى من أهل فلسطين. وظلّ هناك من يحنّ إلى ذلك الزمن ويرى فيه عزة للعرب ومجداً لم يعودا ماثليْن!
قبل أكثر من خمسين عاماً ضاعت بقية فلسطين، وسقطت القدس، لكنهم تحايلوا على هذه الهزيمة الكبرى فأسموها "نكسة". واليوم ما يزال ورثة أولئك المحتالين ينفثون الملوّثات السمعية من أبواقهم، ويحملون شعاراتهم ذاتها، ويسفكون دماء الأبرياء باسم فلسطين في مواقع أخرى، ويكذبون على الجماهير وهم ينظرون في عيونها، ولكن بلغة جديدة ومفردات محدّثة، ابتداء (بالممانعة) ومروراً (بالاستقلال والسيادة) وليس انتهاءً (بالحرب على الإرهاب). وسيظلّ دائماً هناك عرابون للهزيمة وسدنة للعبودية الحديثة، ومزيّنون لمصائبها، ومتخصصون في تجميل قبح التبعية والانحطاط، وسيظل تزييف معانيها وتحويره حِرفة المأجورين ومطايا المجرمين وأبواق الطغاة، في كل زمان ومكان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.