شعار قسم مدونات

المكارثيون الجدد!

مدونات - مكارثي
توصيفا لموجة التخوين والإقصاء السائدة هذه الأيام في ظلال الأزمة السياسية غير المسبوقة التي تعصف بدول الخليج العرب منذ أزيد من شهر، لجأ بعضهم لاستخدام مصطلح المكارثية! والمكارثية مصطلح فكري وثقافي وسياسي مر عليه ما يقرب من السبعين عاما ليكون أحد أشهر المصطلحات التي تطل برأسها في أزمنة الأزمات التي يختلط فيها حابل الوطنية بنابل السياسة وكل منهما يحاول أن يستخدم كل الأسلحة المتاحة، ومن أسوأها سلاح التخوين لمجرد الاختلاف في الرؤية المتعلقة بالوطن وقضاياه الكبرى!

ورغم أن المكارثية بتوصيفها هذا سبقت صاحبها الذي نسبت إليه فهي كانت دائما موجودة كسيف مصلت على رقاب العباد الذين يحلو لهم أن يفكروا في قضايا أوطانهم خارج صندوق السلطة والمنتفعين منها، الا أنها اكتسبت شهرتها المدوية عندما تبلورت كمصطلح نسب إلى سيناتور أمريكي كسر كل قواعد التعامل السياسي بين أعضاء المجتمع في خمسينيات القرن العشرين عندما لجأ إلى تخوين مجموعة كبيرة من الفنانين والمثقفين والإعلاميين الأمريكيين من ذوي الميول والانتماءات اليسارية متهما إياهم بصلات تربطهم بمنظمات شيوعية كانت محظورة في أمريكا آنذاك!

بدأ مكارثي نشاطه بشكل فردي عبر توجيهه الاتهام لما يزيد على مائتي موظف من موظفي الخارجية الأمريكية بأنهم أعضاء في الحزب الشيوعي (المحظور) مستغلا أجواء الحرب الباردة بين القوتيين العظميين في العالم وهما أمريكا والاتحاد السوفيتي، حيث كان الانضمام للحزب الشيوعي الذي تقوم عليه الفكرة السوفيتيية العدو الأول للولايات المتحدة الأمريكية، وهذا يعني أن مكارثي اتهم هؤلاء الموظفين بأنهم خونة ما داموا يؤمنون بفكرة تقوم عليها الدولة التي تعدي دولتهم حتى وإن كان ذلك إيمانا فكريا مجردا من تطبيقاته السياسية الحاضرة مثلا، بل حتى وإن كانت تلك التهمة غير مثبتة قضائيا بل هي مجرد ظنون سيئة دارت في بال مكارثي وبنى عليها اتهاماته القاتلة.

لا يحتاج المكارثي لأي أدلة يؤكد فيها الاتهام الذي يقوله وينشره كحقيقة دامغة. حيث تتلقف الجماهير المهيئة مسبقا لتقبل ذلك كل اتهاماته على أنها حقائق وتبدأ في المشاركة بالفعل المكارثي تلقائيا لتثبت وطنيتها في سعار من التخوين الجماعي.

لكن مكارثي، ككل مكارثي في التاريخ وفي الجغرافيا، لا يستمر وحده، فسرعان ما استمالت فكرته القائمة بكل بساطة على تخوين كل مختلف في رؤيته لقضايا وطنه عما هو سائد تحت جناح السلطة الحاكمة، جماهير كثر تعاونوا فيما بينهم على صناعة المكارثية التي نمت وتوسعت كممارسة سياسية وثقافية عامة على مدى عقد كامل من الزمان، فكان المكارثيون يتلصصون على أنكاط الناس الحياتية ليقتنصوا منها ما يمكن أن يوسع دائرة الاتهام ويضاعف من أعداد المتهمين بالخيانة العظمى!

ولأن المكارثية الى تحتاج الى أدوات كثيرة ولا إلى موهبة خاصة لصناعتها بإتقان، ذلك أنها كفكرة ضد الإتقان المؤدي الى التحقق، فكان أن كبرت الفكرة بطريقة عشوائية حيث وقع في شباكها مثقفون أمريكيون وأوربيون كثر من دون أن يشعروا بخطرها في البداية، فقد منعت مئات العناوين من كتب المؤلفين الأوربيين بحجة أنها تعادي فكرة الوطن أو تشجع على الافكار الشيوعية أو تتبنى القيم اليسارية، وبنفس هذه التهم وجد أساتذة جامعات ومثقفون وفنانون أنفسهم في السجون أو في العزل الاجتماعي المقيت وبطريقة سهلة جدا حيث كان يكفي للمكارثي، أن تختار ضحيته من هؤلاء ثم يتهمها أنها خائنة وأن كل ما تقوله وما تفعله يصب في مصلحة العدو وبالتالي ضد الوطن.

فلا يحتاج المكارثي لأي أدلة يؤكد فيها الاتهام الذي يقوله وينشره كحقيقة دامغة. حيث تتلقف الجماهير المهيئة مسبقا لتقبل ذلك كل اتهاماته على أنها حقائق وتبدأ في المشاركة بالفعل المكارثي تلقائيا لتثبت وطنيتها في سعار من التخوين الجماعي. وهذا يعني أن تهيئة الجماهير لبذرة المكارثية كانت هي الأساس الأول في نمو هذه البذرة الشيطانية في تلك الأرض الخصبة. ويكفي أن نذكر بعض الأسماء الثقافية والفنية الشهيرة التي حاولت المكارثية أن تسقطها في دائرة التخوين مثل تشارلي شابلن ومارتن لوثر كنغ وألبرت آينشتاين، لنعرف مدى التغلغل الذي بلغته تلك الفكرة في أمريكا الخمسينيات!

لم تستمر المكارثية الى الأبد بالتأكيد لكنها استغرقت ما يقرب من عقد كامل من الزمن كانت فيه وقودا لأثر الحرب الباردة في المجتمع الأمريكي، وعندما بدأت بوادر انتهاء تلك الحرب خبت نار المكارثية ليكتشف الناس أنهم عاشوا ضحايا كذبة شاركوا فيها وهم يعتقدون أنهم كانوا يدافعون عن الوطن! لكن المكارثية التي سقطت في أمريكا عن عمر لا يتجاوز السنين العشرة بسقوط رمزها الأول في النهاية معنفاً على يد مجلس الشيوخ الأمريكي الذي كشف عن ممارساته الترهيبية ضد معظم المثقفين المختلفين بالضرورة، وجدت من يتبناها في كثير من بلداننا العربية تحديدا حيث يختلط مفهوم الوطن بمفهوم السلطة لدى كثيرين إما جهلاً أو تقصداً، وفي ممارسات كثير من الإعلاميين و"المثقفين" المتعاطين مع الازمات السياسية العربية ومنها الأزمة الخليجية الأخيرة أمثلة على المكارثية في أحدث صورها؛ من لا يفكر كما تفكر السلطة فهو خائن حتماً! يا للهووول!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.