شعار قسم مدونات

قونيا.. ونبوءة القصيدة

blogs جلال الدين الرومي

كان برد منطقة الفاتح ناخراً لجسدي المسافر بين مناخين، خاصة أن تدني الحرارة المفاجيء يرافق التقلب الموصومة به عاصمة الترك، ومدينة الوجد، اسطنبول، ولما كان الوجد هو ما رافق شتاءها هناك، أويت الى مسجد أحد السلاطين، متحصناً بقبة ترتاح بثقة بين شموخ المآذن، من مطرها الثقيل، ومدارياً للوجد المريض به بتأملٍ وسُبحَة، ثم كان اندلاق القصيدة.

 

لم أكن قد وصلت قونيا في صيف هذا العام بعد، وكان رمضان على بعد أسبوعين، وقد طافت في نفسي كل أقوال جلال الدين الرومي، "مولانا" كما يحب أن يسميه الأتراك، والذي اكتشفت لاحقاً أنها أصبحت وصفاً لهذا العارف وليس نسبةً كما نظن نحن أبناء العربية، لذا لن أتحرج من ذكرها صفة ونسبة.

 

كدأب كل رحلة الى مدينة جديدة، فإنني أحرص على ممارسة الحياة التقليدية لأهل المدينة، مبتعداً قدر الإمكان عن ممارسات السياح، ومرافقاً للأصدقاء من أهل البلد، والذين كونتهم على مدى ترحالي وسفري. فكان لي في قونيا شرطان، أن أحصل على المثنوي بترجمته الأفضل للعربية وبنسخته التركية الحريرية الرقيقة، وهو كتاب جلال الدين الرومي، فيه خلاصة تجربته وعصارة فكره، وجمال قصده وقصيده، والشرط الثاني، أن أشاهد حضرة صوفية مولوية، والذين يُعرَفون بالدراويش الدوارة، وهو رقص مولوي يعتمد على الدوران، ويسمونه السماع، بحيث يصل السامع للذكر، إلى لحظة من الوجد لا يستطيع معها إلا أن يطوف بنفسه لعله يحقق الوصال المرجو بينه وبين الله.

 

لم أتوقع أن يكون فندقي في مقابل مقام شمس الدين التبريزي، صاحب جلال الدين الرومي في قواعده الأربعون للعشق، والذي قضى مقطوع الرأس مفقود الجسد، بسبب حسدٍ متقدٍ من أناسٍ ظنوا أنهم أولى بصحبة مولانا منه

صلّى بنا مستضيفنا الجمعة في المسجد الكبير، وقد لاحظت فرقاً في لحن الآذان المنطلق من حنجرة هذا القونوي عما اعتدته في اسطنبول، كنت أنظر في الوجوه بنهم شديد، وأرى في كل وجه منها درويشاً أو سالك طريق أو شيخ طريقة، كدأب الطائرة التي حملتني إلى قونيا، ويكأن مولانا بطريقته المولوية، قد أهدى هؤلاء الناس مسحةً على وجوههم وقلوبهم، لا تنطفيء بالتقادم.

 

لم أتوقع أن يكون فندقي في مقابل مقام شمس الدين التبريزي، صاحب جلال الدين الرومي في قواعده الأربعون للعشق، والذي قضى مقطوع الرأس مفقود الجسد، بسبب حسدٍ متقدٍ من أناسٍ ظنوا أنهم أولى بصحبة مولانا منه، وأحرص من مولانا على نفسه، فخافوا أن يفتنه فيهم، ففتنوا أنفسهم به. إذن فأنا أقف على مقام الرأس لا الجسد، وقد وصلت إلى موقع شمس ولمّا أصل إلى موقع جلال الدين بعد.

 

انتهى عرض أحد أفلامي في غرفة تجارة قونيا، وكعادة الجمهور التركي المحب لكل ما هو فلسطيني، تجمع حولي حشد لا بأس به من طالبي الصورة والتوقيع، فإذا كانوا شباباً حظيت بعناقٍ حميم، وإذا كانوا فتيات، حظيت بشكرٍ أعمق، ونظرات ما تلبث أن تنظر حتى تنكسر خجلاً، فكيف إذا كانوا قونويات.

 

تقدمت إحداهن بأدبٍ جم، وعينين تلمعان من أثر الدمع الذي تركه الفيلم فيها، وقالت بلغة عربية ركيكة متكسرة، وببعض التركية التي أستطيع أن أفهمها، أنها قرأت لي قصيدة عن قونيا كنت قد كتبتها قبل ستة شهور، وتتمنى لو تحصل على ترجمتها الكاملة باللغة التركية، دارت بي رأسي إلى لحظة المسجد والمطر، وها أنا أرتجف أمام مسجد الفاتح في اسطنبول وعلى منصة الفيلم في قونيا.

 

أخذنا المستضيف إلى مقام مولانا، هناك على باب كعبة العشاق، يهيئونك للدخول، بنقشٍ على الباب يقول "أنت هنا في كعبة العشاق، وما يهب الناقصين كمالهم"، فتعلم أنك مقبلٌ مع هذه الجموع على مفهوم خاص وجديد من العلاقة الوجدانية مع الله، وإن لم تتساوى فيه نظرتك مع نظرة الجموع، والتي تشي ممارساتهم، بفهم سطحي على ما يبدو لما أراده مولانا من الاكتمال والارتقاء.

 

بقي السؤال يلح علي، ما الذي فعله جلال الدين الرومي، حتى يبقى له هذا الحضور، وحتى تُخلَد أقواله، ويحتح بها عند الأمم على اختلاف المشارب. وصلنا الحضرة المولوية، وبدأ وقت التوحد كما يسمونه، وأناخ الدراويش برواحلهم بعتبة باب القرب، وقد لبسوا عليهم أثوابهم البيضاء كناية عن الكفن، وطرابيشهم البنية السوداء، كناية عن شاهد القبر، وبدأوا طوافاً حول ذواتهم، بيد مبسوطةٍ لأعلى تستقبل من الله المدد، وأخرى مبسوطة للأسفل، تعطي البشر دون حساب، وبصري متعلق بدرويشٍ بدت على وجهه آثار الوجد وعلى عنقه آثار التسليم، وطوافه بذاته يزداد تسارعاً حتى ُأُذِن للحضرة بالانتهاء. 

 

يقولون إن المطر قد توقف في الخارج، وأنني يجب أن أخرج مسرعاً من مسجد الفاتح، حتى لا يعود الجو للتقلب، مسحت شعري الأجعد المبتل، وآخر نقطة ماء عن هاتفي الذكي، فقد مسه بعض بلل أصابعي وهي تنقش قصيدة عن قونيا

كان الوقت عصراً لما تأهبت للرحيل، محمَلاً بتحفة فنية لأحد دروايش المولوية، وبحرف الواو الذي يرمز للولادة وبالمثنوي، في طريق العودة مررت بمكان التقاء جلال الدين الرومي وشمس التبريزي والذي يتوسط السوق، وقد أطلق عليه أهل قونيا "مجمع البحرين"، وما زال بحرُ نفسي مائجا بالتساؤلات، ومعلقاً على باب كعبة العشاق وفوق رأس شمس التبريزي.

 

يقولون إن المطر قد توقف في الخارج، وأنني يجب أن أخرج مسرعاً من مسجد الفاتح، حتى لا يعود الجو للتقلب، مسحت شعري الأجعد المبتل، وآخر نقطة ماء عن هاتفي الذكي، فقد مسه بعض بلل أصابعي وهي تنقش قصيدة عن قونيا والتي سأعرض فيلمي فيها بعد ستة شهور، تقول القصيدة:

 

بَانتْ من لُجّة مَوجتِها 
حُوريةُ ماءٍ قونِيّة

 

وتُراوِدُها في مَشيَتها
آثارٌ من سُلطانيّة

 

وبُحورُ الماءِ بَحدْقَتِها
تَحْكِي بُسْفوراً لُجيّاً

 

تَحْكِي تاريخَاً مُنْدَثِرَاً 
فيْ كُلّ حُروفِ التُركية

 

سَلْجُوقيّاً في قَلْعَتِها
وعُيونُ الحَرسِ اللّيْليّة

 

و ِرماحُ الجُندِ مُسنّنةٌ
وقِبابُ الوالِي مَطْلِيّة

 

فَيَقُومُ السّلطانُ الغازِي 
في بُقعَة قَلْبِي الَمنْسيّة

 

لِيُقيمَ الدّوَلَةَ فِيْ نَبْضٍ 

وعدت الفتاة أن أترجم القصيدة، وفي نفسي تساؤلٌ، كيف لي أن اكتب قصيدة عن مكان لم أطأهُ من قبل؟ أم أنها نبوءة القصيدة، فما الذي منها تحقق؟


رايتُهُ فيها خَمْرِيّة

 

مَحْبوكٌ فِيهِ هِلالاتٌ 
نَجْمَتُه فِيها مَحْميّة

 

لِيُزيلَ الحُزْنَ بِعَيْنَيها

وسِهامُ الحُبّ يَبوسِيّة

 

وجَلالُ الدّينِ يُناديني 
في نَفحةِ وصلٍ صُوفِيّة

 

دُرْ في فُلْكِ الله تعالى 
وانهل من نَبْعِك مَرويّا

 

وعدت الفتاة أن أترجم القصيدة، وفي نفسي تساؤلٌ، كيف لي أن اكتب قصيدة عن مكان لم أطأهُ من قبل؟ أم أنها نبوءة القصيدة، فما الذي منها تحقق؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.