شعار قسم مدونات

أفَلاَ يَتَدَبّرُونْ (1).. العَالَمُ العُلوِيّ

blogs السماء

لمّا تعوّدت أبصارُنَا رؤيَة الأشياء مِن حَولنَا، لم تعُد تَعترينَا تلكَ الدّهشة ولم نعُد نَستَشعِر عَظَمة الله في الكَون، مَات في الرّوح كلّ إحسَاسٍ يُذكّرهَا بخَالقِها. لكِن مَاذا لو تأمّلنَا في عَظمة الله في خَلقِ ذاك العَالم الآخر، العَالم العلويّ الذي لم نَره قَط، عَالمِ المَلائكة؟ 

إنّ في السّمَاء مَخلوقات بأحجَام عَظيمَة تفُوق التَصوّر، وتَتَجَاوز المُحيطَ الفِكريّ، وحُدودَ العَقل، تَسير وفقَ خطَّةٍ مُحكَمة، فلا تَميل عَن مَسَارهَا، ولا تَتعَدّى حُدودَها المَرسومَة لهَا. والمُثير للدّهشَة ارتبَاط هَذه المَخلوقَات العُلوية، ارتبَاطًا وثيقًا بحَياة المخلوقَات السّفليّة الكَائنة في هَذه الأرض.

سكّان السّماءِ، مَخلوقَاتٌ من نُور، لا يَطعمُون ولا يَشربُون، إنّمَا طَعامُهُم التّسبيحُ والتّهليل، لا يَنفكّون عن عِبادَته عَزّ وجلّ، قال تعالى: "وَلَهُ مَنْ فِي السّموات وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ"، فالمَلائكة عَالم عَجيب وهُم كَثرة لا تُعد ولا تُحصَى.

فكّر مَعِي في هذا العَدد الذي لا نهَاية له، والذي قِسمٌ واحدٌ منهُ هُم المَلائكة المُوكّلون بحِفظ أعمَال العِباد وكتَابتِها، فلكُل عَبدٍ يتنفّس عَلى وَجه البَسيطة ملكٌ للحَسناتِ عن يَمينه ومَلكٌ للسيّئات عن شِمالهِ. هذا بخِلاف قِسم آخر من المَلائكَة وهم الرّاكِعون السّاجِدون العَابدون القانتُون ابدًا، هَذا عَملهُم لا ينفكّون عنه… وغَيرِهِم الكَثير.

المَلائكة حِين تَسمَع كلامَ الله إذا تكلَّم -سبحَانه وتعَالى-بالوَحي يُغشى عَليهَا مِن هَوْل المَوقف وعَظَمته، قال تعالى: "حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ"، فالمَلائكةُ تفزَع إذا سَمعَت الوَحيَ، ثم يُغشى عَليهَا، ثم يرفعَه اللهُ -جلّ جلاله-عنها

ثمّ لو خَصّصْنا أكثر وتأمّلنَا في خَلقِ جِبرِيل -عَليهِ السّلام-الوَحي الأمين وصِفَاته، قال تَعالى: "نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ"، والذي كان يُعرفُ قبل نزُوله على سَيّدنا محمّد -عليه الصّلاة والسّلام-، بالنّامُوس الأكبر، وهو سَيّد الملائكة. ويُمكِنُ تَقسيمُ صِفاته -عليه السّلام-إلى صِفَاتٍ خَلقيّة وأخرى خُلقيّة.

أوّلاً: الصّفات الخَلقيّة
إنّ لجِبرِيل -عَلَيهِ السّلام-سِتمِئةِ جَنَاحٍ كَمَا وصَفَه لنَا الرّسول -صَلى الله عَليه وسلّم-، فعن عبد الله بن مَسعُود -رَضِي الله عَنه-: "أن النّبي صَلّى الله عَليهِ وسَلم رَأى جِبريل فِي صُورته لَه سِتمِئَة جَناح"، رَواه مُسلم، ويبلغ طُول كلّ جَناحٍ منهَا مَا يَزيد عَمّا بَينَ مَشرِق الأرضِ ومَغربِهَا بِحَيث لا تَتّسِعُ الأرضُ لهذا الجناح! حيث رآه -صلى الله عليه وسلم-في هَيئته الأصليّة أي في هَيئة مَلاكٍ مَرتين فقط، وذكر هذا في سُورة التّكوير في قوله تَعالى: "وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ" أي رآه قد سَدّ الأفُق أيْ مَا بَين المَشرقِ والمَغربِ، أو مَا بَين الشّمَال والجَنوب.

 

والمَرّة الثّانية ذُكرت فِي سُورة النّجم: "وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى" فهذا الضّمير يَعود عَلى النّبي -صلّى الله عليه وسَلّم-. ورَوى البخَاري وهو يُحَدّث عَن فَترة الوَحي والنّبي -صَلّى الله عليه وسَلّم-يَصف جِبريل -عليه السلام-، قال: "بينمَا أنا أمشِي إذ سَمِعتُ صَوتًا من السَّمَاء فَرفَعتُ بَصرِي فإذا المَلَك الذِي جَاءني بِحِرَاء جَالسٌ عَلى كُرسيّ بَين السّمَاءِ والأرضِ فرُعِبتُ مِنه فرَجَعتُ فقُلت: زَمّلُوني".

 

ويَسقطُ من رِيشِه التّهَاويل: الدُرّ واليَاقوت مَا الله بهِ عَليم، فعَن ابن عبّاس -رضي الله عنه-أن النّبي -صَلى الله عليه وسلّم-سُئل: "يا مُحمّد! كَيف يَأتيكَ الذي يَأتيكَ؟ فقَالَ رسُول الله -صَلى الله عَليه وسلّم-: "يَأتِينِي مِن َالسّمَاء جَناحَاه لُؤلؤ، وبَاطنُ قَدمَيه أخضَر". أمّا بَاقي المرّات فقد كَان ينزِل عَليه في هَيئة إنسَان مِنهَا في صُورة رجُل يُدعى "دحية الكلبيّ" ومنهَا في صُورة رَجل لا يَعرفُونَه، ذَلكَ لأنّ النّاسَ لا يقدِرُون على أن يَروه كمَا هوَ، لأنّه ليسَ من جِنسِ الخَلق فتدرِكُه أبصَارهم. فسُبحَان من خَلقه، وأينَ للإنسَان من التأمّلِ في هَذه الآيَات، فهَل لنَا أن نتَخيّل ولو قليلاً هيئته عليه السّلام.

ثانيًا: الصّفات الخُلُقيّة
* العلم: وقد ذُكِر هذا في قوله تعالى: "مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى". فمِنَ الطّبيعيّ أن يتَّصف بالعِلم؛ فهو ناقِل بَعض عِلم الله سُبحَانه وتَعَالى للأنبياء.

* القوّة الهائلة: وهي أهمّ ما يحتاج إليه ليقُوم بما خُلقَ من أجله، فالمَلائكة حِين تَسمَع كلامَ الله إذا تكلَّم -سبحَانه وتعَالى-بالوَحي يُغشى عَليهَا مِن هَوْل المَوقف وعَظَمته، قال تعالى: "حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ"، فالمَلائكةُ تفزَع إذا سَمعَت الوَحيَ، ثم يُغشى عَليهَا، ثم يرفعَه اللهُ -جلّ جلاله-عنها، وقال تعَالى في حقِّ جبريل -عليه السّلام-: "ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى"، و "ذُو مِرَّةٍ"، أي: شديد الخَلْق، شديد البَطْش.

 

وفيمَا ذُكِرَ أيضًا في قصَص الأنبيَاء عن إهلاكِ قومِ لوطٍ لمّا أرَادوا أن يفعَلوا الفاحِشة بضيوفِ نبيّنَا لوطٍ -عليه السّلام-، أنّ الله أرسلَ عليهم جبريلَ فأقتلع مُدنهم السّبعة بطرَفِ جَناحِه من قَرارِهِنّ بمن فيهنّ من الأمم. قال تعالى: "فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ".

* الأمانة: كما قال تعالى: "وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ." ووصفه الله بالكَريم لكَرم أخلاقِه، وكَثرة خِصَاله الحَميدة فإنّه أفضَل المَلائكَة وأعظَمهُم رُتبةً عِند ربّه. قال ابن جَرير في تفسيره، عن إسمَاعيل بن أبي خَالد، عن أبي صَالح: "أمِين عَلى أن يَدخل سَبعينَ سرادقًا من نور بغير إِذْن".

يحظى جبريل عليه السلام بالاحترَام من المَلائكَة: وهَذَا فِي قَولهِ عزّ وجلّ: "إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ"، أي: تُطيعُه المَلائكَة، وكَيفَ لاَ وهُو سيّد الملائكَة وحَامِلِ كلاَمِ الله

* حُسنُ الخُلق: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:" مَررتُ لَيلةَ أُسرِي بِي بالمَلأ الأعلَى، وجِبريل كالحِلسِ البَالِي من خَشية الله تعَالى "، صححه الألباني في صحيح الجامع. فأن يَجدَ الرّسول -عَليه الصّلاة والسّلام-هَذا المَلكُ الشّديد القوة كالحِلسِ البَالي من خَشية الله، فإنما يدلّ ذلكَ على فَضلِ علمِه بالله تعالى.

* الاحترَام من المَلائكَة: وهَذَا فِي قَولهِ عزّ وجلّ: "إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ"، أي: تُطيعُه المَلائكَة، وكَيفَ لاَ وهُو سيّد الملائكَة وحَامِلِ كلاَمِ الله.

ويجدُرُ التّنبِيه إلَى أنّ كلّ هَذهِ الصّفَاتِ المجتَمِعَة ومظَاهرٍ قوّة جِبريل -عليه السّلام-الخَلقيّة إلى أنّ هَذهِ الخلقة العَظيمَة التِي هيّأهُ الله تعالى بهَا، تَحمِل في طَيّاتهَا تَهيئَته لِحِفظ القُرآن وحَملِهِ كَمَا هُو بالسّرعةِ المَطلوبَة إلى الرّسُول عليه السّلام، ثمّ إنّ البَاحِثَ المُتأمّلَ في خَلقِ الله للعَالَمِ السّمَاويّ، وصِفاتِ الملائِكَةِ كَجِبريل وميكائيلَ وغَيرهِم سَيقف مذهولاً، عَاجزًا فإن كَان جبريل -عليه السّلام- أحَد خَلق الله تعالى بهذه العَظمَة وهذه الصّفات فكيف هو الخَالق جَلّ جَلاله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.