شعار قسم مدونات

عقيدة التفوق القطري

blogs - الأمير تميم
في خضم التحليلات والتعليقات التي تجتاح الفضاء الإعلامي عن أزمة الخليج وحصار قطر، وتسارع الأحداث وتعاقب المواقف، كان لا بد من تفكيك وفرز عناصر الأزمة والنفاذ إلى أصلها وجوهرها؛ ذلك الجوهر البسيط الذي تفرع عنه ذلك الكم الهائل من التحليلات والمقاربات المركبة والمعقدة والمتناقضة في أحيان كثيرة. الجوهر البسيط يتلخص في فكرة أساسية هي: الصراع بين الوصاية والتحرر. فقطر المحدودة جغرافيا وديمغرافيا الممتدة طموحا وتأثيرا أسست مند أواسط تسعينيات القرن الماضي لوعي عربي جديد يتجاوز سرديات نظم الاستبداد العتيقة؛ وعي أعاد للأمة العربية ثقتها في نفسها واحتضن رموزها ومفكريها وحركاتها المعارضة والمقاومة، وأوجد لها منبرا إعلاميا حرا ومؤثرا.

هذه النقلة النوعية والرجة العنيفة التي أحدثتها قطر في المياه العربية الراكدة لم تنزل بردا وسلاما على معاقل الاستبداد وقلاع الوصاية الإقليمية والدولية، فسعت جهدها لوضع الخشبة في عجلة تحرر الشعوب وأشاعت وعيا مضادا يقوم على إدامة التخلف وتكريس التبعية عبر إعلام ضخم يحتفي بالترفيه والتسلية قيمة وهدفا، ويروج لتفوق الآخر ودونية المواطن العربي.

توسلت دول الحصار قبل أن تحاصر آل تميم في شِعبهم، وقبل أن تخرج إلى الناس بصحيفة المطالب؛ توسلت بكل الطرق والوسائل المتاحة لديها بغض النظر عن أخلاقيتها وشرعيتها من أجل إسقاط قطر والحد من نفوذها المتصاعد، فأنفقت ثروات طائلة على الدعاية المضللة وشراء الذمم ودعم قوى الثورة المضادة المناهضة لقطر وللشعوب العربية وقواه الحية، ورفعت وشايات مكذوبة تربط قطر بالإرهاب إلى القوى الكبرى واضعة خزائنها رهن إشارتها، ممنية نفسها بقرب الخلاص عندما صعد رجل أعمال جامح مفتون بالمال والثروة إلى سدة الحكم في أمريكا.

كتب المؤيدون لحصار قطر الكثير عنها وعن قيادتها سبا وشتما وكان مما قرأت في هذا السياق كلاما لإحداهن يستصغر من شأن قطر ويعتبرها نتوءا أو نقطة صغيرة.. لكن ما فات السيدة الفاضلة التي دبجت ذلك المقال أن مشغليها وأولياء نعمتها لا يشاطرونها الاعتقاد نفسه.

لسنا بصدد جرد المواقف الطريفة التي تخللت فصول الحصار ومحطاته، إذ لولا ما صاحبه من قطع للأرحام وتفريق لشمل العوائل في رمضان، لكانت واقعة الحصار من بدئها إلى راهنها طرفة تصلح أن تضاف كفصل في "أخبار الحمقى والمغفلين" كتاب ابن الجوزي الحاوي لمواقف المغفلين وطرفهم، لكن الأطرف في قصة بوائق الجار أن حضور الرئيس ترمب إلى مغارة علي بابا وفي غمرة اغترافه الشره من الخزائن والأموال المكنزة وزع على مضيفيه وعودا سخية صدقها القوم وفركوا أكفهم طربا لها، وما إن أقلعت طائرة المخلص المنتظر حتى باشر القوم بتنفيذ جانبهم من الاتفاق، معتقدين أن أمريكا مجرد إقطاعية ورثها ترمب عن أجداده، لكن ما إن وصلت وعوده إلى أروقة المؤسسة الأمريكية العتيدة حتى أحالتها إلى جنس اللغو الذي لا يقدم ولا يؤخر، فسارع الرجل إلى فتح جواله والإبراق ببضع تغريدات لترضية خواطر الممولين، نسختها لاحقا مؤسسات الدولة العميقة بتصريحات محكمة لا تقبل التأويل.

اضطلعت قطر مند تولي الأمير حمد مقاليد الحكم في البلاد بمهمة جليلة، بدت في بواكيرها مهمة مستحيلة بعيدة التحقق، إنها إعادة تعريف المواطن العربي بما هو إنسان حر له الحق في العيش بكرامة في وطنه بعيدا عن تعسف السلطة وطغيانها، كما لديه الحق في التعبير عن رأيه وفكره بعيدا عن الترهيب والوصاية.

تعتبر قناة الجزيرة بمثابة المعجزة التي نفخت الروح في هذا الإنسان العربي وجعلت لقضيته صوتا مسموعا ومكنته من تحدي سرديات النظام العربي العتيق، القائمة على التسبيح بحمد السلطان والولاء المطلق لجنابه المعصوم. كانت برامج قناة الجزيرة عبارة عن صالونات فكرية ترمم ما تداعى من كيان الإنسان العربي وتلقنه أبجديات حقوقه، وتؤهله للحظة يكون فيها قادرا على صناعة مصيره وصياغة مستقبله، فلم يألف المواطن العربي مثلا سوى سماع عبارات المديح وقصائد الثناء على حاكمه من مؤسسات الإعلام الرسمي، فهو منزه دائما من كل نقد وانتقاص، متعال عن السؤال والاستدراك، قائم مقام الله في رعاية خلقه وسياسة رعيته، لكن ومع مساء كل ثلاثاء يكون الحاكم العربي المسكين في موعد مع سياط فيصل قاسم يلفح بها ظهره ويمسح بهيبته المزعومة الأرض في برنامج أسطوري حطم كل معايير النجاح وقوانين التميز. كانت الجزيرة مهوى أفئدة المعارضين ومحجا للناقمين من بؤس الواقع العربي وتردي أوضاعه على اختلاف نحلهم وأيديولوجياتهم.

جاءت انعطافة الربيع العربي فكانت قطر في الموعد، وحملت مع الشعوب العربية شعلة التحرر والانتفاض ضد أنظمة الجور والعسكر. كان الخطاب المعارض الذي رعته قطر والجزيرة حجر الأساس لمشروع التغيير الذي هدم بنيان الأنظمة العربية البائدة، وأحل محلها أنظمة شعبية بديلة عُقدت عليها الآمال لولا عواصف الثورة المضادة العاتية المدعومة من النظام الدولي عبر كيانات ريعية عديمة السيادة. ورغم ما بدا من إجماع قوى الكون الكبرى على طي صفحة الربيع العربي إلا أن قطر وقيادتها لا تزال قابضة على جمر الثورة تلم ما انفرط منها وتدافع عما تبقى من معاقلها، فلا تزال تسمي الثورة ثورة والانقلاب انقلابا والعدوان عدوانا والتحرير تحريرا.. قطر تراهن على الشعوب العربية وحيويتها وروحها المتجددة ومنطق التاريخ وفلسفته، وسدنة الثورة المضادة يراهنون على الرشى والابتزاز وشراء الولاءات والذمم.

لقد أدرك المحاصرون أن ما صنعوه لا يعدو أن يكون تتويجا لتفوق قطر وفرادتها في محيطها الإقليمي والعربي، محيط لا تعوزه الثورة ولا الموارد البشرية بقدر ما يفتقد للمشروع الحضاري والأفكار الكبيرة الرائدة.

كتب المؤيدون لحصار قطر الكثير عنها وعن قيادتها سبا وشتما وإشاعات وكان مما قرأت في هذا السياق كلاما لأحدهم – أو بالأحرى لإحداهن- يستصغر من شأن قطر ويعتبرها نتوءا أو نقطة صغيرة.. لكن ما فات السيدة الفاضلة التي دبجت ذلك المقال أن مشغليها وأولياء نعمتها لا يشاطرونها الاعتقاد نفسه، فهم يدركون جيدا حجم قطر ويتهيبون من غضبتها ويحسبون لها ألف حساب، بدليل أنهم لم يجمعوا كيدهم ويبرموا أمرهم إلا بعد أن ضمنوا وقوف الكبار إلى جانبهم أو على الأقل هذا ما ظنوه وحسبوه، وأثناء الحصار لم تتوقف الاتصالات والزيارات عبر مختلف أرجاء الكون بهدف حشد الدعم والتأييد له وإن كان الدعم شكليا أو من كيانات ودويلات تسمع اسمها فتعتقد أنها حلوى جديدة أو مرهما نسائيا نزل لتوه في السوق، قبل أن تدرك أنها اسم لدولة شاركت في حصار قطر!

إن عقدة التفوق القطري أوغرت صدور الجيران على قطر، فعوض أن يشكلوا إضافة نوعية للمنجز القطري، أو على الأقل ينبروا لمنافستها بشرف في شتى الميادين والمجالات التي بان فيها ذكاء القيادة القطرية، إذا بهم يسعون بكل الوسائل المتاحة لإفشال وإسقاط قطر وبث الإشاعات عنها كما ظهر ذلك في مئات التسريبات والشهادات المنشورة. الجدير بالملاحظة أنه وفي خضم عواصف التلفيقات والأكاذيب التي تضخها مؤسسات معسكر الحصار المتشنجة، فإن إعلام قطر -كما دبلوماسيتها- لم يخرج للحظة واحدة عن هدوئه ورصانته ونزاهته.

لقد أدرك المحاصرون أن ما صنعوه لا يعدو أن يكون تتويجا لتفوق قطر وفرادتها في محيطها الإقليمي والعربي، محيط لا تعوزه الثورة ولا الموارد البشرية بقدر ما يفتقد للمشروع الحضاري والأفكار الكبيرة الرائدة، وهو ما انتبهت له القيادة القطرية مند زمن فاستنفرت له خيرة العقول العربية والإسلامية واستقطبت إلى جوارها نخبة من ألمع مفكري الأمة وقادة شعوبها وحركاتها الأصيلة.
شاهد الجميع كيف غلبت الحرية والسيادة منطق الوصاية والتحكم، وانحازت الشعوب العربية إلى جانب قطر وعبرت عن تضامنها ودعمها للقيادة القطرية الحرة، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.