شعار قسم مدونات

مِتنا.. ولم تحيَ الأمّة

blogs القدس

كانت ليلتنا الأخيرة معه، تحلّقنا حوله نشاهد الأخبار، كانت "إسرائيل" قد قتلت منّا مئاتٍ في ثوانٍ، وطائراتُها لأيام متتالية تحلّق فوقنا تنثرُ الموت صواريخ على رؤوس الآمنين، كان الوالدُ رحمه الله مهتمًّا أشدّ الاهتمام بالتحرّكات الشعبيّة للعرب والمسلمين، واستبشر جدًّا بحرارة الحراك في مصر خاصّة، عشرات الآلاف في الشوارع، وتظاهرات غير مسبوقة في القاهرة والمنصورة والإسكندرية، وكثيرٍ من المحافظات المصرية.

 

تهللّ وجهه فرحًا، وقال بصوتٍ رضيّ: "نحن والله نرضى.. نموت، وتحيا الأمة.. نموت وتحيا الأمة". لم يعش بعدها ليلة أو اثتنين، حتى مات هو وأزواجه وصغاره أجمعون.

 

كانت فلسطين حاضرةً على الدوام في الوعي العربيّ الشعبيّ، وعنوانًا مهمًّا من عناوين النضال ضدّ الأنظمة الحاكمة بالحديد والنار، إذ هي آية العجز والذل والخيانة الشاهدة عليهم، الفاضحة لهم، ولذلك لم تكد تخلو فعالية مناهضةٌ للنظام العربيّ الرسميّ من ذكر فلسطين، وبالمقابل كانت التظاهرات المؤيدة لفلسطين مناسبة دائمةً لتقريع الحكام العرب وتوبيخهم، ويكاد يغلب على الظنّ أن تقصير الحكام تجاه فلسطين كان أحد أهمّ الأسباب المؤسسة للثورات العربية سنة 2011، وخاصّة في مصر، بل لعلّ حرب غزّة سنة 2009، والدور القذر الذي لعبه نظام مبارك فيها كان لهما أثرٌ في ثورة يناير يقترب من أثر التزوير المفضوح في انتخابات برلمان 2010.

 

لا ينسى فلسطينيٌّ شباب تونس وهم يهتفون في كل تظاهرة بعد الثورة: "الشعب يريد تحرير فلسطين"، ولا ثوار مصر سنة 2012 الذين اجتمعوا على تعدد أطيافهم ومشاربهم، ودخلوا غزّة تحت القصف، كحّلوا أعينهم بتراب فلسطين، وحنّوا أيديهم بدماء الشهداء، وشيّعوا بدعائهم صواريخ المقاومة، وعادوا إلى مصر بأعظم تجربةٍ وأعزّ ذكرى، يبشّرون بقضية فلسطين، ويحشدون لها بروحٍ وهمةٍ لم يعرفوهما قبلًا.

 

ولما اغتيل الربيعُ العربيّ، كانت فلسطين أعظم الخاسرين، عاد النظامُ العربيّ الرسميّ أوقح من ذي قبل، يروّجُ بين عبيده ومرتزقته الأساطير التي أسس عليها أسلافه خذلانهم لفلسطين في الماضي، ليؤسسوا من جديد خيانة علنيّة صريحة، فاجترّوا ما افتراه السادات كذبًا وبُهتانًا من أن أجدادنا باعوا أراضيهم لليهود، وزادوا عليه فريةً جديدة، أنّ مقاومينا الذين يحفظون شرف الأمة وكرامتها إرهابيون! كبُرت كلمةً تخرج من أفواههم! إن يقولون إلا كذبًا وظلمًا وخيانة!

 

الشعوب المسكينة لم تعُد كما كانت حتى، قُتلت شرّ قتلة، قُتل كثيرٌ من الشرفاء أو سُجنوا، وخوّفت الحكومات بهم من نجا من القتل والسجن، وانشغل كثيرٌ من الناس ببلائه الخاصّ عن كل بلاء، وارتضى آخرون أن يتّبعوا هوى حكامهم المعرض عن فلسطين، المنكبّ على "إسرائيل"، فمنهم من كفّ لسانه وقلمه، ومنهم من أبى أن يكتفي بالخذلان حتى انخرط في حملة الخزي والخيانة على فلسطين ومقاومتها.

 

إنّ ما جرى من إغلاق المسجد الأقصى أمام المصلين، ومنع ذكر الله فيه يومين مكتملين، لأول مرة منذ عقود، ثم ضعف ردّ الأمّة -بكل ما فيها- عليه، لهو شهادةُ وفاةٍ للأمّة الإسلاميّة، ودفنٌ بلا تكريم لبقايا الحياة فيها

لقد بلغ العجز والضعفُ والهزيمة بالأحرار والصادقين، والذلّ والخزي والخيانة بالعبيد والمخذولين أن يمرّ حدثٌ عظيم بحجم إغلاق الأقصى مرورًا باهتًا هزيلًا على الأمّة، يدمي الأفئدة المتعلّقة بثالث الحرمين، ويجرّئ الصهاينة على مزيدِ عدوان وتطاول، ويدعُ القُدس وأهلها وحدهم، في مواجهة الاحتلال المتربّص بالأقصى، ومن خلفه الإدارة الأميركية الحاقدة، والأنظمة العميلة المهرولة نحو التطبيع.

 

يزعمون أنّ جولدا مائير -رئيسة وزراء الاحتلال الرابعة- ارتجفت خوفًا ليلة إحراق المسجد الأقصى، وأنّها تخيّلت العرب والمسلمين سيهبّون على "إسرائيل" هبة رجل واحد، غضبًا لمسجدهم ومسرى رسولهم، وأنها بعد أن رأت خذلان المسلمين لأقصاهم وسكوتهم على إحراقه، قالت: "الآن بوسعنا أن نفعل ما نريد".

 

حقيقةً لستُ مرتاحًا لهذه الرواية، ولا أظنّها صحيحة، لكنّها تبدو اليوم حقيقية جدًّا وأكثر واقعية!

 

إنّ ما جرى من إغلاق المسجد الأقصى أمام المصلين، ومنع ذكر الله فيه يومين مكتملين، لأول مرة منذ عقود، ثم ضعف ردّ الأمّة -بكل ما فيها- عليه، لهو شهادةُ وفاةٍ للأمّة الإسلاميّة، ودفنٌ بلا تكريم لبقايا الحياة فيها، لولا دماء الشهداء الذين يُحمّلهم كثيرٌ من العاجزين مسئولية الإجراءات الصهيونية الأخيرة، وكأنّ الاحتلال لم يكن يُهوّد القُدس ويكيدُ للأقصى قبل عملية "الجبّارين".

 

أستذكرُ اليوم كلمة والدي قبيل استشهاده، ورضاه أن نموت وتحيا الأمة، فأحزنُ إذ أراه مات، ومات معه وقبله وبعده كثيرٌ، ولم تزل الأمة من موتٍ إلى موت، أستذكرُ فرحتي بهبّة الشعوب العربية، وعزائي الشخصيّ بنسمات الرّبيع، وأقارنُه بالحال الحاضرة، فأزدادُ حزنًا على الفُرصة القتيلة، وتسودّ الدنيا -وهي سوداء فعلًا- لولا نور الشهداء الأبرار الذي يشقُّ العتمة بين حين وحين، الدمُ المبارك الذي أشرق علينا إشراقته الأخيرة من ساحات المسجد الأقصى المبارك، فأبى بعضُنا أن يكفّ عنه مزايداته الإنسانية أو دراساته العقلانية.

 

حنانيكم يا قوم، هؤلاء بقية الحياة في الأمة، هم ما تبقّى لنا والله، ولو كان حالُنا صحيحًا لكان لنا أن نقيّم ونقوّم، أما وهذه الحالُ فلا يحضرني إلا قول الشاعر:

أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكمُ *** من اللوم أو سدّوا المكان الذي سدّوا

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.