شعار قسم مدونات

في سوسيولوجيا الحداثة العربية

مدونات - الجيش المصري
بحسب الدكتور محمد علي سبيلا فإن الحداثة بما هي بناء لذات جماعية عقلانية فاعلة -والتي يتم تخيّلها غالبا في شكل دولة قومية حديثة- تتحدد اجتماعيا وسياسيا بالفاعل الاجتماعي الذي يُوّلد الحداثة ويقود عملية التحديث داخل السياق الاجتماعي المحيط به؛ فكما يمكن أن يكون البرجوازيون أو المثقفون أحد أهم مُوّلدات الحداثة في أوروبا الغربية فتم إنتاج نمط معين من التحديث الذي قد يختلف إذا كان الفاعل الاجتماعي الموّلد للحداثة مختلف كالتكنوقراط أو العسكر مثلا، كما في البلدان العربية وخاصة دول المشرق العربي.

يمكن القول أن المشروع الإصلاحي العربي-الإسلامي الذي تزعمه الأفغاني ومحمد عبده وطبقتهم كانوا أوائل التحديثيين المسلمين، وقد تزامن مشروعهم مع الحقبة الأخيرة للسَلطنة العثمانية، الذي كانت قد بدا سلاطينها في إدخال الأنظمة الحديثة في التعليم والجيش والإدارة البيروقراطية للسُلطة. بحسب الدكتور برهان غليون، أنتجت تلك الإدخالات الحداثية في الفضاء العربي، تغيرات سيسيولوجية على عكس ما تم في السياق الغربي الحديث.

بعد صراع طويل مع الاستعمار كانت النخبة العسكرية والتكنوقراطية هي من تولت حكم وإدارة دولة ما بعد الاستعمار رافعة لشعارات حداثية ثورية وتقدمية مناهضة للرجعية

كانت الفئات الاجتماعية التي تم خرجت من رحم ذلك النظام الحديث من عسكر حديث وقانونيين وموظفين نظاميين هي الفئات التي أنتجتها مشروع الإصلاحية العربية التحديثي، وهي ذاتها التي أجهضته، يضيف برهان غليون في كتاب الدولة ضد الأمة، أن الأنظمة الحديثة دخلت بالأساس ولكن لصالح مشاريع سلطانية تقليدية، سُلطوية في جوهرها، وبدون قاعدة اجتماعية تستوعب تلك الأنظمة داخل سياقها الثقافي، كالبرجوزاية أو الطبقة الوسطى مثلا.

ما ترتب عليه أن تمردت تلك الفئات الحديثة على المشاريع السُلطانية التي أنتجتها وعلى المجتمع العربي والإسلامي ذاته، فالعسكر التركي الحديث كان خريج المدارس الرشدية التي أنشأتها السلطنة العُثمانية هي ذاتها التي انقلبت على السلطنة، ثم انقلبت على المجتمع نفسه وأنشأت دولة حداثية متوغلة ومتدخلة في كل أركان المجتمع ولم تشاركه في المقابل في السياسة والسُلطة.

ومنذ أوائل القرن العشرين كانت الثورات العربية الشعبية هي أكبر عملية دمج للجماهير العربية داخل الحداثة باعتبارها عملية من أسفل الهرم الاجتماعي، حيث ظهرت نواة المجتمع الحديث في تشكيلات اجتماعية وسياسية الحديثة ذات تطلعات ومصالح المرتبطة بإنشاء مجال عام حديث سياسي واجتماعي مؤسسي عقلاني وفاعل مثل شرائح المتعلمين تعليم حديث وبرجوازية عربية صاعدة ومنتجة وكذا أحزاب وتنظيمات سياسية ذات أيديولوجيات مختلفة وبيروقراطيات، وكانت الجيوش النظامية الحديثة قد سبقت في الظهور كما سبق أن اوضحنا كأول مؤسسة حديثة منذ القرن التاسع عشر .

عمدت الدولة العربية التحديثية -التي حكمها العسكريون والتكنوقراط- إلى إخضاع كل البُنى والتكوينات الاقتصادية والاجتماعية بشكل سُلطوي عن طريق محوها تمامًا -أو تهميشها

وبعد صراع طويل مع الاستعمار كانت النخبة العسكرية والتكنوقراطية هي من تولت حكم وإدارة دولة ما بعد الاستعمار رافعة لشعارات حداثية ثورية وتقدمية مناهضة للرجعية (والأوصاف هنا مجرد إجراءات دون إطلاق أحكام كلية أو نهائية) وجاءت دولة ما بعد الاستعمار لتكون دولة استبدادية بامتياز ودخلت دول ما بعد الاستعمار في حقبة طويلة من الصراعات بين المكونات الاجتماعية المختلفة.

الدولة الحديثة بشكل عام نشأت على تفكيك كل البُنى الاجتماعية والنفسية التقليدية لمصلحة بناء دولة مواطنة تعامل أغلب سكانها كمواطنين متساويين في الحقوق والواجبات، والجدير بالذكر هنا أن عملية التحديث الغربية بما هي إعادة لهندسة المجتمع وتنظيمه أتت بتفاعلات داخلية من أسفل هرم السلطة لأعلاه ومن أعلاه لأسفله بشكل متزامن في أغلب الأحيان.

على العكس؛ عمدت الدولة العربية التحديثية -التي حكمها العسكريون والتكنوقراط- إلى إخضاع كل البُنى والتكوينات الاقتصادية والاجتماعية غير الحديثة، أو بالأحرى قبل الحديثة، بشكل سُلطوي من أعلى هرم السلطة لأسفله سواء عن طريق محوها تمامًا -أو تهميشها على أقل تقدير- أو إعادة مفصلتها أو عقلنتها /ترشيدها داخل الجهاز البيروقراطي للدولة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.