شعار قسم مدونات

لنا في السَّهَر

blogs القراءة مساءا

كالعادة رن منبه الهاتف معلنا بدء اليوم الجديد أو بمعنى آخر؛ منبهي يخبرني أن الروتين اليومي والمواعيد المعتادة على وشك الانطلاق فلتستعدي. فوجدتني، وبكل تثاقل، أفتح عيناي المجهدتين، بعد ليل طويل، صعوبة ما بعدها صعوبة. عادة السهر هته التي تلازمني كظلي ستقتلني يوما ما أو ستكون السبب الرئيسي لوفاتي حتما وبدون أدنى شك.

 

لا أتذكر حتى كيف؟ ولا أين؟ وما السبب؟ حتى أصبح السهر ذلك الصديق المقرب عندي. كل ما أعرفه أن السهر يريحني وأن الليل عندي يعني الإبداع، يعني حياة أخرى بعيدا عن ضوضاء الحياة وجلبة الكون، يعني ذلك التفرد والاختلاء بالنفس بعيدا عن كل الفتن والإغراءات.

هو الليل وحده القادر على فهمي وتحمل فلسفتي ونقاشاتي وصخب أفكاري التي لا تنتهي، هو وحده من يعرف حجم الإبداع الذي يأسرني وكمية الأفكار التي تنهمر على كالسيل في هكذا وقت، هو الوحيد الذي يعلم عن ذلك العشق الذي يتملكني تلك اللحظة اتجاه كتبي، ودراستي، وحاسوبي، ومقالاتي التي على قيد الانتظار، هناك في أحد الملفات، تنتظر المسكينة مني التفاتة وتنقيحا ولسان حالها يقول "أرجوك لا تتركيننا هنا فنحن نريد الخروج للعالم".

 

السهر اختلاء بالنفس وحديث لا ينتهي معها، حديث حول إنجازاتها، وطموحاتها، وأهدافها. حتى العابد والراهب يجدان في السهر تلك الفرصة التي لا تعوض لمناجاة خالقهما وبث شكواهما له بعيدا عن أعين الناس وكلامهم

لا أظن أن أحدا سيفهم ما أعنيه إلا إذا كان عاشقا للسهر مثلي؛ جميعهم يقولون لي لا تسهري كثيرا على الأقل من أجل سلامة عينيك وجسمك لكنهم أبدا لا يعرفون أن السهر هو رأس مالي وكنزي.

مرة التقيت صديقتي الأمريكية، تبادلنا أطراف الحديث لمدة صباح كامل لتسألني بعدها "إكرام ما بك؟ ألم تنامي جيدا؟ تبدين مرهقة ما السبب؟" لأجيبها بعد ذلك أنني لم أنم حتى لاحت خيوط الصباح من نافذتي البنية والتي لا تغلق أبدا؛ نافذتي هي الأخرى دائما مفتوحة على مصراعيها رغم تحذيرات حبيبتي أمي المتكررة من الإصابة بالإنفلونزا، لكن لا حياة لمن تنادي فأنا ضعيفة جدا أمام تلك النسيمات الليلية المتسللة إلى الغرفة، والتي رغم لفحة برودتها أعشقها.

 

كان جوابي هذا نقطة بداية لحديث ونقاش آخر، لأكتشف فيما بعد أن صديقتي الأمريكية أيضا تعشق الكتابة والسهر وأن ملكة الإبداع والسيل الجارف من الأفكار لا يقربانها إلا ليلا. 

وكإنسانة تعشق الهدوء والعزلة، رغم شغبها وشخصيتها الاجتماعية، تجدني دائما ما أتلهف شوقا لقدوم الليل ونوم الجميع، لا لشيء إلا لاستغلال تلك السويعات الثمينة والنادرة لقراءة كتابي المفضل على إيقاعات موسيقى هادئة أحيانا، أو للقاء حميمي مع أوراقي وقلمي، وتارة لإكمال واجباتي المدرسية، وفي أضعف الحالات للغوص في دروب ومتاهات مقالات فرونكفونية وانجلوفونية وأخرى عربية علني أعزز من معارفي وطريقة تعامل الثقافات الأخرى مع بعض المواضيع ناهيك عن تعزيز مواهبي اللغوية.

السهر ليس دائما دردشة مع حبيب أو تبادل كلمات الغرام، كما هو متعارف عليه في مجتمعاتنا التي تعاني من عقدة الحب كما تعاني من عقد أخرى لا تعد ولا تحصى، بل السهر أحيانا كثيرة حياة خاصة يكون فيها المرء أقرب إلى ذاته من أي وقت آخر.

 

عشاق السهر تمادوا في سهركم، أبدعوا فيه، وعيشوا اللحظة، لا تأبهوا لأي شيء آخر عدا تلك السعادة والطمأنينة التي تغمر قلوبكم وأرواحكم فيما بعد

بمعنى أدق، السهر اختلاء بالنفس وحديث لا ينتهي معها، حديث حول إنجازاتها، وطموحاتها، وأهدافها، وما هي عليه الآن، وكم خطوة حققت من الخطوات المكتوبة بقلم حبر جاف في مذكرة أنيقة تقبع هناك في ذلك الدرج المقصي من المكتب. حتى العابد والراهب يجدان في السهر تلك الفرصة التي لا تعوض لمناجاة خالقهما وبث شكواهما له بعيدا عن أعين الناس وكلامهم.

ولنا في السهر ألف حياة وألف حكاية وملايين من القصص ومئات المشاهد التي لا تعد ولا تحصى. لنا في السهر تلك الحياة التي نختارها بملء إرادتنا وبكامل قوانا العقلية؛ بعيدا عن الضغوطات اليومية التي تشكل يومنا كما تريد هي وفقا لرغباتها ومزاجيتها لا كما نريد نحن. لنا في السهر سلوى وتعويض عن حياة مزيفة وميكانيكية. عشاق السهر تمادوا في سهركم، أبدعوا فيه، وعيشوا اللحظة، لا تأبهوا لأي شيء آخر عدا تلك السعادة والطمأنينة التي تغمر قلوبكم وأرواحكم فيما بعد. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.