شعار قسم مدونات

عن مُخْبِري أيامنا

blogs - شرطي في مصر
كنا لا نزال صغارًا حين اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، إلا أن أيامنا وعالمنا يومها كانا رحيمين بنا فسمحا لنا بأن نتظاهر! اصطف طلاب المعهد الثانوي الأزهري في مظاهرة دارت بفنائه أولًا ثم غمرتها العاطفة فخرجت إلى الشارع دون أن تدري أن هذا من محرمات عهد مبارك.

ما زلت أذكر وجه عامل النظافة الذي نعرف جميعًا أنه مخبر، رأيته داخل أسوار المعهد وهو ينهرنا في غضب شديد ويقسم أنه سيبلغ قسم الشرطة، ثم رأيت وجهه العكر مرة أخرى ونحن نطلق سوقنا للرياح، تطاردنا سيارة الشرطة وعساكرها يركلون من تطاله أقدامهم. انتهى بنا الجري واللهاث يومها إلى مسجد، فدخلنا وتوضأنا وتهيأنا للصلاة، إلا أن إمام المسجد أبصر وجوهنا المتوهجة وأجسادنا المتعرقة فعرف أننا من المتظاهرين، ثم إنه أقبل يهددنا أن نخرج وإلا أبلغ عنا دوريات الشرطة التي كانت لا تزال تجوب المكان. لم أستطع يومها أن أفهم سر الكره الشديد الذي يكنه لنا مخبر المعهد بشواربه القميئة أو العساكر الذين أتعبوا أنفسهم بالجري وراءنا بكل إخلاص ومحاولة إلحاق الأذى بنا. وكانت حيرتي الكبرى حين أصر ذلك الجبان أن يخرجنا من المسجد الذي التجأنا إليه مذعورين. كان هذا في زمن يهتف فيه أحدنا (في عرض الله) فيكف زملاؤه عن ضربه، فكيف يخرجنا هذا (من بيت الله)! فهمت يومها أن لكل زمان ومكان، مخبروه وبصاصوه. وأدركت كذلك أني أكرههم من كل قلبي.

undefined

فيما بعد تكونت لدي قناعات بدائية أن (المخبر) هو مصدر الشر في العالم وأن إصلاح مصر يبدأ بالقضاء على مخبريها وبصاصيها. كنت أقول هذا لبعض أقاربي فيضحك، أجادله فيستمر في الضحك. حين كان يجادلني بأن هؤلاء لم يتلقوا تعليمًا جيدًا وأن كثيرًا منهم لا يجيدون القراءة والكتابة، كنت أحتج عليه بجدتي -رحمها الله- وقد كنت أراها مهمومة كسيفة البال أيام الانتفاضة يهمها ويحزنها ما تراه وتسمعه عن أخبار فلسطين رغم أنها أمية لم تدخل يومًا مدرسة وكانت حتى وفاتها لاتحسن إلا الحساب على أصابعها! كيف يكون الجهل المدرسي هو المتهم رغم أنها ليست مثلهم.

ظل هذا سؤالًا يؤرقني طيلة دراستي الثانوية حتى دخلت الجامعة، وفي الأسبوع الأول فوجئت بصديق قديم لي يحذرني من (فلان) ويحذرني من التبسط معه في الكلام بحجة أنه مخبر! في البداية لم أستسغ أن يكون الطالب المتعلم في كلية الطب مخبرًا وبصاصًا للشرطة مثله مثل الجهال الذين طاردونا في الشوارع وركلونا بأحذيتهم، لكن رؤيتي لأحد الأساتذة المرموقين وهو يصافح أحد ضباط الشرطة في مسكنة ووداعة -رغم شهرته العارمة بالشدة والحزم- أقنعني أن المخبر ليس فقط جهلًا مدرسيًا وإنما هي قناعة نفسية وأسلوب حياة.

رغم كل السواد الذي تحدث عنه إلا أنه كان يتكلم بلسان الخائف والمعتذر. هذا اللسان وتلك اللهجة التي لا نجدها اليوم بل نجد لسانًا يتحدث بقلب صهيوني ويتناسى أن الأقصى ليس شأنًا داخليًا وإنما هو مقدس لكل المسلمين. 

انتقلت بي الحياة في الجامعة إلى دروب أخرى، هذه المرة على الضفاف الأخرى، ووسط من ينتمون للمعارضة.. للوهلة الأولى ظننت أن (الإنسان المخبر) لا يعيش في هذه الضفاف حيث البشر طيبون ويريدون الخير والسعادة للجميع، بالطبع كل على طريقته وحسب فهمه. لكني كنت مخطئًا واستطاع المخبرون أن يتسللوا إلى هذه الأوساط. الحكايات اليومية عن (الأخ) الذي يعطي تقريرًا يوميًا لفلان أو علان عن كل المنتقدين والمعارضين أصبحت غير مثيرة للدهشة على الإطلاق.

اليوم أراني أتحسر على (مخبرين أيامنا) الذين كانوا لا يتخفون في ثياب إعلامي أو صحفي. تمتلئ حياتنا بالمخبرين في كل مكان، دون هراوات غليظة أو شوارب مخيفة، بل جميعهم يتأنق في ثيابه وربما يسبق اسمه درجة علمية لكنه هذه المرة لا يحرض على المتظاهرين لأجل الانتفاضة بل يحرض ليل نهار على الانتفاضة نفسها وعلى أهلها.

قديمًا جالست مخبرًا في أيام مرضه وجعل يحكي من تلقاء نفسه عن مبرراته الشخصية للعمل في الجهاز سيئ السمعة الذي كان يدًا للبطش والإرهاب. رغم كل السواد الذي تحدث عنه إلا أنه كان يتكلم بلسان الخائف والمعتذر. هذا اللسان وتلك اللهجة التي لا نجدها اليوم بل نجد لسانًا يتحدث بقلب صهيوني ويتناسى أن الأقصى ليس شأنًا داخليًا وإنما هو مقدس لكل المسلمين. اليوم لا يتظاهر طلاب المدارس الثانوية في بلادي، بل ربما تكون الشوارع ملأى بمخبرين من كل الأصناف والألوان.. أمر يجعلني أتحسر على (مُخْبِري أَيّامنا)!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.