شعار قسم مدونات

فلسطين التي تُحيينا

مدونات - فلسطين
كنت تلميذاً بالمرحلة الإعدادية وقتها، حينما انفجرت المظاهرات في قريتنا تهتف "يا فلسطين يا فلسطين احنا معاكي ليوم الدين"، كنت في حالة اندهاش من خروج المدارس الابتدائية والإعدادية دون تنسيق مسبق ولا تخطيط في قرية صغيرة هادئة يتجنب الناس فيها الحديث عن السياسة في الأماكن العامة خوفاً من بطش أمن الدولة، رأيت أطفالاً أصغر من الشهيد محمد الدرة الذي خرجوا للتنديد بقتله يهتفون باسمه ويطالبون بالثأر له، سنوات طويلة مرت علينا تبدلت فيها الأحوال حتى وصلنا لبقعة مظلمة من تاريخ المنطقة بأكملها، نقطة لم يكن يتوقع أحد أن تصل إليه، دول هدمت وشعوب ذبحت وشردت، وحكام يرون في العدو صديق حميم، إلا أنه ما إن يقع شيء في فلسطين تدب الروح في تلك الشعوب التي تعرف بوصلتها لتناصر أم القضايا وقبلة الشعوب.. فلسطين.

خلال الشهور الماضية فضحت الصحافة الإسرائيلية عدة لقاءات سرية بين مسؤولين وقادة عرب مع أصدقاءهم الصهاينة، كان من أبرزها اللقاء السري بين وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لقاءان آخران جمعا نتنياهو وعبد الفتاح السيسي كانا سريا أيضاً، أحدهما في العقبة بمشاركة الملك عبد الله بن الحسين ووزير الخارجية الأمريكي جون كيري، والآخر هو الأكثر وقعاً الذي اصطحب فيه نتنياهو زعيم المعارضة الإسرائيلية والرئيس السابق لحزب العمال إسحق هرتسوغ في القاهرة.

برغم الحسرة التي تتملك المرء على حال القاهرة التي لم يعد أبناءها يملكون القدرة على التظاهر والتعبير عن تضامنهم مع أشقاءهم الفلسطينيين إلا أن التضامن الكبير منهم عبر مواقع التواصل عبر عن العرق الذي مازال ينبض إيماناً بالقضية.

وبرغم دلالات تلك اللقاءات، وبرغم كل التبريرات السخيفة التي ساقها الإعلام يبقى أن هؤلاء لا يزالون يتخفون ويتكتمون على لقاءاتهم مع العدو، ولو كان في أيٍ من تلك اللقاءات خير لما حرصوا أشد الحرص على بقاءها في إطار السرية كمن يخاف أن يفتضح أمره، ولعل لقاء القاهرة الأخير يعبر عن المدى الذي وصلت إليه الحميمية بين السيسي وداعميه في تل أبيب، حيث أن اللقاء كان بهدف التوفيق بين أقطاب السياسة الإسرائيلية لتشكيل حكومة ائتلافية تستطيع إنجاز صفقة القرن التي يسعى إليها السيسي بهدف القضاء على القضية الفلسطينية والتفريط فيما بقى من أرض فلسطين.

تلك اللقاءات ومساعٍ أخرى حثيثة من بعض الحكومات العربية للتقارب مع العدو الإسرائيلي ظهر ناتجها على خطاب البعض من أفراد الشعوب كان أوضحها ذلك الوسم الذي انطلق على وسائل التواصل الاجتماعي باسم "سعوديون مع التطبيع" وخطاب قلة قليلة حول ضرورة الاعتراف بالعدو وتبادل العلاقات معه لمعرفة وجهة نظره، إلا أن كل ذلك تمت مقابلته بسيل جارف من ملايين المغردين الرافضين للتطبيع والمؤكدين على بقاء إسرائيل كعدو لدود للشعوب ودولة احتلال عنصرية تقتل المواطنين وتسرق أرضهم لتعطيها لمستوطنين محتلين جاؤوا من بلادهم لاغتصاب أرض ليست أرضهم ووطن لا يمت لهم بصلة.

undefined

وبعد الإجراءات الصهيونية تجاه المسجد الأقصى، انفجرت المظاهرات في عدد من الدول العربية، وبرغم الحسرة التي تتملك المرء على حال القاهرة التي لم يعد أبناءها يملكون القدرة على التظاهر والتعبير عن تضامنهم مع أشقاءهم الفلسطينيين إلا أن التضامن الكبير منهم عبر مواقع التواصل عبر عن العرق الذي مازال ينبض إيماناً بالقضية، وكذلك فإن الخلاف الذي وقع بين بعضهم لمعبرٌ هو الآخر عن الخوف على القضية والغيرة عليها، فبعض الذين اختلفوا حول عملية طعن المستوطنين في حلميش المغتصبة، ورأوا وجهة نظر أخرى في وسائل المقاومة ربما تكون أكثر كسباً للرأي العام العالمي، كان موقفهم نابعاً من إيمانهم بالقضية وتضامنهم الكامل مع حق الشعب الفلسطيني، تلك الرؤية المختلفة التي استغلها الإعلام الصهيوني كعادته في شق الصف وتصوير المشهد وكأن هؤلاء تياراً مناصراً للتطبيع مع الكيان المحتل، وهو ما أحدث وقعاً كبيراً بين الكثيرين الذين رأوا أن ذلك خطأً كبيراً.

حتى وإن اختلفنا على بعض وسائل تلك المقاومة فيبقى اختلافنا معبر عن إيماننا بالقضية وتضامنا الكامل معها، وتبقى هي القضية الأم وأم القضايا والبوصلة الصحيحة للنضال.

وبرغم الحدة التي انتابت ذلك الخلاف والتي صورها الإعلام الكاذب في مصر كعادته على أنه سوء أدب، إلا أنه يبقى مؤشراً جيداً على غيرة الغالبية العُظمى من المصريين على قضية فلسطين وإيمانهم بالحق الفلسطيني المغتصب من الاحتلال حتى ولو اختلفت وجهات النظر في وسائل المقاومة، وربما كان تقدير البعض خاطئً في النظر إلى المستوطنين المحتلين الذين لا يمكن اعتبارهم مدنيين في حرب، بل هم أكثر من جنود احتلال، فهم من جاء طواعية من بلادهم لاحتلال المدن الفلسطينية التي تمت مصادرتها بقتل أصحابها وتجريف بيوتهم ومزارعهم، بل إن أكثر من ذلك ما كشفته الصحافة العالمية من ترويج الاحتلال لأحد الأنشطة السياحية داخل المستوطنات، وذلك عبر لعبة أطلق عليها "كاليبار 3".

وأوضحت تلك المواقع بأن هذه اللعبة عبارة عن تمثيل السائحين كجنود إسرائيليين يقومون بالتصويب على أهداف تجسد صور مواطنين فلسطينيين، وذلك للتعرف على النشوة التي يشعر بها الجندي المجرم وهو يقوم بإطلاق النار على المدنيين من أبناء الشعب المغتصب أرضه، وذلك بهدف نزع الإنسانية منهم ومحو صفة الشرعية عن القضية وتقبل هؤلاء السياح لأخبار قتلهم بكل سعادة وراحة ضمير، ولعل لتلك الممارسات وغيرها من الإجرام الإسرائيلي ما كان سبباً لما حدث للطفل الفلسطيني محمد حسين أبو خضير (16 عام) والذي تم اختطافه من قبل 5 مستوطنين أثناء توجهه لصلاة الفجر وقاموا بتعذيبه وإحراقه حياً، وكذلك الطفل علي الدوابشة (18 شهر) والذي استُشهد حرقاً بعد إلقاء بعض المستوطنين قنابل حارقة على منزله أدت لإصابة أفراد عائلته واستشهاده.

تلك الجرائم وغيرها كثيرة جدا جدا خير معبر عن هوية المستوطنين، وخير دليل على حق المقاومة الفلسطينية في الدفاع عن أرضها وشعبها، وحتى وإن اختلفنا على بعض وسائل تلك المقاومة فيبقى اختلافنا معبر عن إيماننا بالقضية وتضامنا الكامل معها، وتبقى هي القضية الأم وأم القضايا والبوصلة الصحيحة للنضال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.