شعار قسم مدونات

ممر لا يصلح للراجلين

blogs - امرأة تشرب القهوة
في الجزء الخفي من حياة كل واحد منا دائما هناك ممر لا يصلح للراجلين؛ يقودنا إلى الركن الذي نهرب إليه كلما تصدعت أنفسنا وفقدت قواها، فزحزحة واحدة بدرجة الصفر من سلم ريختر، كافية بأن تبعثر الياسمين المغروس في أرواحنا، وتوسع أضعافا مضاعفة مساحة قبورنا. حتى وإن كان يبدو للآخرين أننا نتصرف فعلا بطريقة مثلى، ونشرنا الصور لأسعد اللحظات التي طبعناها بقبلة العمر وعناق الحياة على مواقع التواصل الاجتماعي، لنوهمهم أننا بخير سعداء مناضلون نؤمن بالشرف ولا نصافح يدا امتدت يوما للإرهاب، وأننا حساسون جدا مفكرون بالفطرة نعشق القهوة، ولا تحلو صباحاتنا إلا وأنغام فيروز تطربنا. جربت فعلا ذلك الجو الشاعري على أمل أن أجدني أو بالأحرى أجد ما كتب عنه السابقون بشغف.
شربت القهوة بلهفة العاشق؛ مثلا في جميع الساعات ولم أشعر أبدا بما خطه درويش عنها، ربما لأني شربتها مسرعة وهو القائل القهوة أخت الوقت تحتسى على مهل، كانت مفتاح نهاره، وأنا التي كنت ألاعب الليل بها على أمل ألا يأتي الصباح مهرولا لكيلا أنام؛ إلا بعد أن أنهي واجبي الجامعي. لكني في النهاية أنام.

تخر قوانا، نضعف، نكتئب، ونستغرب كيف للآخرين أن يروا فينا قوة خفية وجبروتا من أمل، لا نراه نحن في أنفسنا وننهض من على السرير متمسكين بقشة سعادة وحفنة حياة ونرمي دواء الاكتئاب في أقرب سلة للمهملات.

القهوة أخبرنا عنها مريد البرغوثي في كون لذتها تكمن في أن يقدمها لك شخص آخر، هي كالورد، وإن قدمتها لنفسك فأكيد أن أناك في عزلة بلا عاشق أو عزيز. فعلا فقد يكون هذا هو السبب، فأنا في عزلة لمدة طويلة، لكني كلما خرجت إلى السوق أشتري زوجين من الفناجين على أمل أن يأتي زائر غريب، مرت عشرون سنة ولم يأت أحد. ولا أزال لحد اللحظة أشرب الشاي المنسم بالأعشاب الصحراوية دون نعناع، وأشير للقهوة من بعيد وأرثيها بعنفوان كلما سمعت درويش وأعتذر له بأسف.

ولأن لا حب إلا للموسيقى وكأس الشاي وصحن من الأرز بالحليب، لا أدري لماذا الفيروزيات لا تغريني، يقولون عنها معجزة، ومع كامل احترامي لقدسية مكانتها لدى كثيرين هي لا تطربني، لكنها أبكتني عندما مر الثلج عشرين مرة وكبر الجميع باستثناء شادي، وأيضا عندما كانت على نيتها واعتقدت أن حبيبها خارج البلاد واكتشفت أنه أصبح لديه أولاد.

نشعر في أحايين كثيرة أننا لامنتمون، مجرد أشخاص مركونين إلى الجانب كشيء، تخر قوانا، نضعف، نكتئب، ونستغرب كيف للآخرين أن يروا فينا قوة خفية وجبروتا من أمل، لا نراه نحن في أنفسنا وننهض من على السرير متمسكين بقشة سعادة وحفنة حياة ونرمي دواء الاكتئاب في أقرب سلة للمهملات. كمشة من الورد يا صديقي كافية بتعديل مزاج أي شخص فينا، صورنا لا تعني أبدا أننا بخير لأننا نبتسم للكاميرا دائما حتى وإن كان البرص تفشى في سائر جنبات الجسد.

إذا سألتني كيف الحال وأجبتك بخير، اسألني مرة ثانية فقد لا أكون كذلك. لا داعي بأن نظهر للآخرين أننا نملك جينات متشابهة بيننا وكبار الشخصيات في المجتمع، لأننا أبدا لسنا صغارا بالرغم من أننا نحب الشاي والأرز بالحليب وسماعة الأذن اليسرى بها عطب. ليس بالضرورة أن تعشق القهوة لكي تكون كاتبا، ولا أن تستمع إلى فيروز لتكون عاشقا. ضع لك ممرا خاصا بك يقودك إلى ركنك المنسي الذي تعرفه وحدك، ممر أبدا لا يصلح للراجلين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.