شعار قسم مدونات

أن تعبر الشارع بين قنصليتين

مدونات - زواج
بعد سنة وشهرين تقريباً من زواجنا الفعلي، استكملنا أخيراً الأوراق اللازمة لتسجيل الزواج في القنصلية اللبنانية في إسطنبول. ركضنا صباحاً حاملين ملف الأوراق الكثيرة، وأهمها إخراج قيد فردي لمنهل (زوجي) يفيد بأنه عازب. أجرينا نسختين من كل ورقة ووثيقة رسمية بحوزتنا، سواء كانت على صلة بعقد الزواج أو لا. منها مثلاً إقاماتنا في تركيا، وعقد الإيجار، حتى إننا أخذنا صوراً شمسية للاحتياط. كانت هذه الزيارة الرابعة إلى القنصلية، والأولى التي لا نعود بعدها خائبين. ففي كل زيارة سابقة، كان ثمة هفوة أو خطأ صغير يقفذنا شهرين أو ثلاثة علماً أن العقبة الأكبر على الإطلاق، بقيت إخراج القيد. وكان سبق لمنهل أن استخرج واحداً، لكنه ريثما وصل من مسقط رأسه إلى عنواننا في إسطنبول، كانت مدة صلاحيته قد انتهت، ليعود ويبدأ المحاولة من جديد.

هي المعاملات الرسمية عموماً، تختبر فيك الصبر والقدرة على المثابرة، فكيف إذا كانت من سورية؟ المهم، إننا حصلنا أخيراً على الورقة المطلوبة، وهي لا تزال سارية إذ مر شهر واحد فقط على إصدارها، فحملناها وانطلقنا بها. المفارقة إن القنصليتين اللبنانية والسورية تقعان في مبنيين متواجهين من الشارع نفسه، لا يفصل بينهما إلا سيارات عابرة ومشاة يتساءلون عن سبب الطابور أمام مدخل إحداهما. فالسوريون الراغبون بإصدار جوازات سفر يعانون الأمرين في حجز دور لهم من سفارة بلدهم، ويأتون منذ ساعات الصباح الباكر لضمان دخولهم. وكثيراً ما يقعون فريسة السماسرة ومعقبي المعاملات الذين يتقاضون مبالغ تصل أحياناً الى 500 دولار لمجرد حجز موعد سريع، أو نحو 300 لموعد عادي، ما عدا التكاليف الإجرائية الأخرى.

ما جدوى شطب القيد إن كان قانون الأحوال الشخصية برمته مفرطاً في الحماية الطائفية ومفصلاً على قياس الحدود الجغرافية؟ فالمرأة اللبنانية لا تزال ممنوعة من منح جنسيتها لعائلتها..

وفي حالات كثيرة يتبخر السمسار ومواعيده والمبالغ التي تقضاها، لتبدأ المعاناة من جديد. ولشدة ما شاعت تلك الحالة، اصدرت السفارة تعميماً يتيح حجز المواعيد "أونلاين" وبالمجان تفادياً لفخ السماسرة. لكن ذلك أو غيره لا يلغي طبعاً الحاجة للقدوم منذ الفجر، وحجز مكان على الرصيف ريثما يحين الدور في لائحة المواعيد الطويلة. المشهد يعيدك إلى مداخل السفارات في لبنان منتصف التسعينات حيث يتجمهر الناس طلباً لتأشيرات إلى بلدان لا ترغب بهم. كانوا يرتدون أفضل ما عندهم لترك انطباع جيد والإيحاء بأنهم قادرون على تحمل تكاليف السفر والإقامة، كما كانت بعض النسوة المتقدمات في السن يضعن قلادات ذهبية تكشف انتماءهن وقدرتهن المالية درءاً لشبهات الهجرة بهدف استغلال الضمانات الاجتماعية للمتقاعدين.

من شرفة القنصلية اللبنانية رحنا نسترق النظر إلى القنصلية الجارة. هل نقف قريباً في ذلك الطابور وتتآكلنا المخاوف؟ ربما أنا لا. لكن منهل أكيد. نظرت إليه ولم أقل شيئاً بل رحت أثرثر بلا انقطاع وهو بقربي يتصبب عرقاً ويزعم الانصات. أنقذتنا الموظفة من حالتنا إذ طلبت مني تعبئة استمارة ما ريثما تعود بالملف. رحت أكتب أسماءنا وعنواننا، وأسماء أهلنا، وأرقام سجلاتنا، ووصلت إلى الطائفة والمذهب فإذا بمنهل مذهول. سألني بصوت منخفض لئلا تسمعه الموظفة: لماذا تفعلون ذلك؟
نفعل ماذا قلت؟
تسجيل الطائفة، والمذهب فوقها!
لا أعلم. لأننا هكذا. وأنتم؟
لا أعلم. لم أتزوج من قبل!

وفيما نحن نهم بالخروج، تذكرت إنه بات بالإمكان شطب القيد الطائفي عن السجل وكان يمكنني ربما الاستفادة من ذلك التعديل وتطبيقه فوراً على نفسي إن كانت شروطه متوفرة فينا. لكن وبحكم العادة أصبح ملاء الخانات الطائفية، بديهياً بالنسبة لي ولغيري من اللبنانيين ربما. لكن ما جدوى شطب القيد إن كان قانون الأحوال الشخصية برمته مفرطاً في الحماية الطائفية ومفصلاً على قياس الحدود الجغرافية؟ فالمرأة اللبنانية لا تزال ممنوعة من منح جنسيتها لعائلتها، وتوريث أبنائها الذين وإن ولدوا في لبنان ونشأوا فيه يتلقون معاملة إقصائية في قطاعات التعليم والتوظيف والطبابة. لا وأكثر من ذلك،
فهي لا تزال ممنوعة من السفر معهم أو فتح حساب مصرفي لهم بلا إذن من ولي أمرهم.

خرجنا من القنصلية اللبنانية وارتمينا في مقاعد أول مقهى صادفناه. نظرنا إلى الجهة المقابلة، وتنهدنا عميقاً. فنحن لم نبدأ بعد جمع أوراق نعبر بها الشارع إلى الضفة الأخرى.

وأنا في البداية لم أر ضرورة لتسجيل زواجي بصراحة، لأنني لن أستفيد بشيء من تغيير خانتي في سجلات الأحوال الشخصية، سوى أنني سأصبح رقماً إضافياً في إحصاءات اللبنانيات المتزوجات من أجانب واللواتي تحرص المؤسسات الرسمية على تعدادهن بدقة كل عام دون سائر المواطنين. لكني بعد نقاش مع صديقة تزوجت بغير لبناني أيضاً اكتشفت أنه سيصبح بإمكاني على الأقل استخراج إقامة لمنهل في لبنان، لعله يرافقني في زياراتي المقبلة بلا عناء التأشيرة.

لكن، مهلاً، ليست إقامة دائمة، بل إقامة تجدد كل 3 سنوات عوضاً عن 6 أشهر أو سنة، بموجب التعديل الدستوري الأخير، والذي جعلها أيضاً مجانية! يا للسعادة! ما عادت اللبنانيات مضطرات لدفع "غرامة" دورية لارتباطهن برجال من خارج الحدود! لا وأكثر من ذلك، فتلك الإقامة التي يفترض أن تكون "عائلية"، تسمى "إقامة مجاملة". وكأني بالدولة اللبنانية كلها وقد تحولت الى أهل زوجة نزقين، يستقبلون ذلك الصهر الغريب من باب "المجاملة واللياقة"، بلا كثير ترحيب واستئناس، مع التذكير الدائم بأنه لن يصبح واحداً من أهل البيت وفرداً من هذه الأسرة.

خرجنا من القنصلية اللبنانية وارتمينا في مقاعد أول مقهى صادفناه. نظرنا إلى الجهة المقابلة، وتنهدنا عميقاً. فنحن لم نبدأ بعد جمع أوراق نعبر بها الشارع إلى الضفة الأخرى، هناك حيث الطابور الصباحي يبتلع الرصيف. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.