شعار قسم مدونات

الإرهاب في مواجهة الإرهاب

blogs داعش بعد الموصل
لم يكن لفرعون أن يقول: "أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى" لولا المسوّغات السياسيّة والتاريخية والأيديولوجية التي أقنع نفسَه وقومَه بها، إذ لكلّ قوة فعل قوة رد فعل، ولكلّ سلوك عدائي مبرّراته؛ فوصول بني إسرائيل إلى مصر واستقبالهم بالمعاملة الحسنة من قِبَل الهكسوس، ومعاونتهم للمحتل ضد سكان مصر والامتيازات التي تمتعوا بها في صياغة الذهب وتجارة المواشي، كلها عواملٌ أحدثت عزلةً بالغة جعلت اليهود ينظرون إلى سواهم نظرة عداء ويدينون إلى جماعتهم -لا إلى الوطن- بالولاء، حتى ثار المصريون وطردوا الهكسوس واستعادوا السيطرة على أرضهم. ولما اعتلى فرعون عرش مصر، قرّر تسخير مَن تآمر على شعبه في أعمال يحتاج تنفيذها لقوة بشرية ضخمة، وخوفًا من تهويد الدولة بسبب تكاثر رجالهم، أمرَ بالتخلص من أطفال اليهود الذكور واستبقاء الإناث. تلك الأحداث لو عرفها أيُّ عاقلٍ لا يحيط بالحقبات التاريخية السابقة والمتعاقبة، لَتَعاطف مع فرعون. 

حتى يومنا هذا، ما زالت المسوّغات نفسها تُطرَح في العرف السياسي، وهي مطيةٌ لكل مَن يعجزَ عن تحقيق غاياته إلا بها، الفرق يكمن فقط في ارتدائها حلّةً جديدة تُدعى "الإرهاب"، لو سادت في عصر فرعون الأوّل لدعا قومَه بـ"الإرهابيين". والواقع يفيد أن كل من يؤمن بهذا المصطلح ويعمل به ويتخذه عنوانًا للمرحلة هو صاحبُ مبدأ وله الحق في كيفية استخدامه. فاليوم باسم الإرهاب، تُغلَّق المساجد وتُمنع الصلوات وتُزرَع المتاريس وتُطوى سجلّات القوانين الدولية. باسم الاٍرهاب، تُفرَز شعوب وفق الجنسية والديانة واللباس وتُطرَد عشوائيًّا وتُفكّك عائلات. باسم الإرهاب، تُزوّد البيوت العربية بشحنات من التحريض والكراهية والشيطنة عبر نشرات إخبارية وإنتاجات تلفزيونية لو وُزِّعت أموالها على الأرض لانقرض الفقر والجوع. باسم الإرهاب، تصمد ديكتاتوريات عربية ويُشرّد آلاف من ديارهم وأوطانهم ويهلّل بشريّون لانتصار الديكتاتور. باسم الإرهاب، تُقاطع وتُعزَل دولة إسلامية وتُساق شكوك واتهامات ضد أخرى، وتتنازع الأمّة في جزئيات لتستكمل تمزيق نفسها.  

كان جمال عبد الناصر يرفع رايات القومية والاشتراكية ويهتف للمواطن المصري: ارفع رأسك يا أخي، فيما الأخير لم يستطع رفع رأسه من طفح المجاري وكرباج المخابرات وخوف المعتقلات.

باسم الإرهاب، يُقتَل موقوفون في سجون التعذيب هنا، وتُنتهك أعراض نساء على مسمع ومرأى من أزواجهنّ المعتقلين هناك. باسم الإرهاب، تُستباح كرامات لاجئين وتُمارَس التصفية الممنهجة بحقهم ولا مَن يعترف بإنسانيّتهم. باسم الإرهاب، يرتدي حماة الوطن ثوب الجلاّد ويتحول المرتزقة إلى أبطال وتقف الحكومة ذليلة متفرّجة، ومن السّمّ الزعاف يُستخرج الترياق.
 
في المرحلة الراهنة، لم يُتوقّع أكثر من محاولات لفهم خفايا التحايل الذي نعيشه باسم الإرهاب من جهة، واستمرارٍ للعجز عن كبحه من جهة أخرى، وبين الجهتين يتصدّر الفاسدون مراكز النفوذ. لكنّ نظرةً منطقية إلى الماضي القريب تدعونا ألا نبرّئ مسؤولاً أو ننشد له المدائح في ظل الغوغائية المتفاقمة، ولعلّ ما كتبه دكتور مصطفى محمود، رحمه الله، في تحليله لأوضاع عصره يدعونا للاعتبار، حيث قال: "كان جمال عبد الناصر يرفع رايات القومية والاشتراكية ويهتف للمواطن المصري: ارفع رأسك يا أخي، فيما الأخير لم يستطع رفع رأسه من طفح المجاري وكرباج المخابرات وخوف المعتقلات… وساد مناخ لا يزدهر فيه إلا كل منافق وتدهورت القيم… وعاش عبد الناصر عشرين عامًا في ضجة إعلامية ومشاريع دعائية حتى استفاق على هزيمة تقسم الظهر وعلى مئة ألف قتيل تحت رمال سيناء… وضاع البلد وضاع المواطن".

ليس بوسع الشاهد على الأحداث المحيطة بنا إلا التسليم بحقيقة أن لا بديل شرعي للإرهاب كمسوّغ لاستحلال القتل، لكن مَن يؤمن بالسّنّة الكونية يدرك تمامًا أنها لا تتغيّر ولا تحابي فاسدًا على حساب آخر، فيبقى في حالة تناص مع الحقائق من دون أن يمطي ظهره لأي صاحب سلطة يبرّر تصرفاته الضّالّة والمنحرفة بدافع المصلحة الوطنية، وهذا أضعف الإيمان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.