شعار قسم مدونات

امرأة في ظلال الأقصى

مدونات - نساء الأقصى

هي ليست وجهاً واحدا، ليست سنديانة منفردةً وسط آلاف الأشجار، ليست نجمة يتيمة فقيرة النور، ليست حالة فريدةً عصية على التكرار والتناسخ، بل هي ثلة من نساء وفتيات تقدمنَ الصفوف وكنّ أطواداً في معركة الأقصى، وشموساً تمتدّ من سماء إلى أخرى، ووروداً تتفتح ثورة وعطاءً في أكثر من ساحة.

هي زينة عمرو (أم رضوان) المربية والمعلمة والمجاهدة والمرابطة (رغم إصاباتها المتكررة) في ساحات الأقصى، هي خديجة خويص وهنادي حلواني؛ نخلتان مزروعتان قرب بوابات الأقصى، عنوانان للعزيمة الفائرة، والهمة المتجددة، والإصرار المتين، صوتان يصدحان في كل الأمة، ويتابع نداءاتهما الآلاف، وتنتعش على وقع هتافهنّ أحجار سور القدس، فتزداد صلابة وتشبثاً بالبقاء.

هي أم عمر العبد، والدة البطل الذي نفّذ عملية حلميش، فاستقبَلت مَن زاروها مواسين بأطباق الحلوى، افتخاراً واحتفاءً بصنيع ابنها، فاعتقلها الاحتلال ليداري خيبته ويكبت حيرته.

هي عشرات أخرى من المرابطات حول الأقصى، لا يبالين بقمع ولا يعجزهن حَرّ أو طول مكوث، ولا تشدّهن نداءات الراحة والاستكانة. وهي مئات في الساحات القريبة من الأقصى ومدن الضفة الغربية، يلبين نداءه، ويحملن همّه، وينصرن قضيته في الميدان.

هي كلّ أمهات الشهداء اللواتي لا ينتقص دمع الفراق من يقينهنّ وصبرهن، فيحمدن الله على المصاب وعلى أن شرفهنّ بأن كنّ منجبات لفرسان الأقصى والمدافعين عنه.

undefined

هي أمّ ليس لها حظّ كبير من التعليم والثقافة، لكنها تعرف بفطرتها النقية واجباتها التربوية، فتنشئ رجالاً لا نعاجا، وتبثّ في قلوب صغارها حبّ الأقصى وحب الجهاد في سبيل الله، لا تغذّيهم خوفاً وخمولاً ولامبالاة، بل صلابةً وإباء ومبادرة، فتضع أقدامهم على أول الطريق، بعد أنْ توقن أنّ الله لن يضيّعهم ولن يحرمها أجر جهادهم ورباطهم.

المرأة في ظلال الأقصى حكاية قديمة، وأخرى متجددة، تتخذ في كل مرحلة أشكالاً أكثر نُصوعاً وتنتهج مسارات أعظم بطولة، فيزداد تمسّكها بدورها بقدر إدراكها لأهميّته ومركزية حضوره.

ليس مهماً أن يلتفت الإعلام في إطار تغطيته لدور المرأة الميداني إلى تلك الشكليات التي تشغله عادة، كأن يبحث في دلالات دور المرأة في هذه المعركة من جهة كونها تُعطي مؤشراً على انفتاح المجتمع وتقبّله أن تمارس المرأة أدواراً عامة، أو من جهة ازدياد قناعاته بالمساواة بين الجنسين، ونحو ذلك، فتلك محض أوهام إعلامية. لأن المجتمع -أي مجتمع- ما كان ليمنح المرأة المجاهدة والمرابطة ومنجبة الأبطال وافر احترامه لولا أنها ابتداءً فرضت معادلات جديدة، وقاومت رتلاً من الخرافات، وصدّت حراب التقاليد الصماء، حتى أفهمت من حولها أن دورها في المقاومة والرباط يمثّل أولوية في خياراتها الحياتية، وأن حصيلة استعدادها للصمود ستهزم تلك المحاولات الوصائية البلهاء حين يظنّ بعضهم أن من حقّه أن يحدد للمرأة قالباً ينحبس فيه نشاطها وتتكيف وِفْق مقاساته عزيمتها، وأن يسرد عليها قائمة أولويات ومطالب، تأتي المشاركة في الثورة في آخرها، أو لا تأتي أصلاً لدى أعراف وعقليات تؤمن بالقعود منهجاً للحياة، ولا تستوعب أن يحطّم عهده الرجال فضلاً عن النساء.

المرأة في ظلال الأقصى حكاية قديمة، وأخرى متجددة، تتخذ في كل مرحلة أشكالاً أكثر نُصوعاً وتنتهج مسارات أعظم بطولة، فيزداد تمسّكها بدورها بقدر إدراكها لأهميّته ومركزية حضوره. ألم تكن -على سبيل المثال- بطولة المرابطات في ساحات الأقصى واعتداء الاحتلال على بعضهنّ من عوامل تفجّر هبّة تشرين الأول/2015م؟

المرأة في ظلال الأقصى هي أيضاً امرأة في ظلال رجل عظيم وشهم وموفور المروءة، يشدّ من أزرها ويقدّر إباءها ويُعينها على تجاوز النوائب، ولذلك فهي أيضاً ملهمة للرجال الذين يقفون معها في ميدان الرباط والجهاد، ومحرّضة لِهِمَم الذين لم يحسموا أمرهم بعد، وما تزال أثقال القعود تنهك أطرافهم. وهي من جهة أخرى تشكّل استفزازاً لمن لم ولن يروا في المرأة أكثر من متاع، ويسوؤهم أن تسبقهم في ميدان أو تدفع بأبطال استثنائيين إلى المعركة بعد أن رعَت فيهم بذرة الإقدام، وكانت أعرف بمتطلبات الحرية من رجال كثيرين لا يسعهم مجاراة عنفوانها، فيختارون قمعها إن استطاعوا، أو إشغالها عن واجباتها الكبرى، أو استنزاف طاقتها في شؤون تصبح تافهة حين يعلو نجم النفير، ويطلب المهتدين بنوره، رجالاً ونساءً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.