شعار قسم مدونات

فاتتني الرحلة من جديد

blogs مسافر

للمرة الثانية على التوالي، تغادر طائرة اسطنبول، ويغلق في وجهي "كاونتر" التسجيل، كم تزعجني الكلمة الدخيلة من بلاد العجم على أصالة الحرف الذي أتغنى به. والكاونتر هنا، مجموعة من المناضد المعدنية المصطفة في وجه المسافرين، يمرون من خلالها الى وجهاتهم، هي في شكلها النهائي تعبير عن العبور، والنقطة المفصلية في الولوج الى الوجهة القادمة.

 

كم شهدت هذه المفارز من صخب المسافرين، واعتراضهم على حمولاتهم الزائدة، وهناك آخر يمر بكل يسر، لا يحمل من دنياه المسافرة، إلا حقيبة ظهر وجوازٍ مغزول على مهل، من دولة تسود العالم في رفاهيتها، ينما يصر المعترض الصاخب، على حمل البيت والوطن والأهل في هجرة حقيقية من عالمه الثالث، حتى إذا ما وصل وجهته، لم يختلف عليه بيته، وبقي مقيما في حنين المهجر.

 

اقترب مني بلطف مصطنع، وإن شئت قل، لطف دورات التدريب، و"الايتيكت" الممارس بشكل يومي مع زبائن الطائرات، يا إلهي، "ايتيكيت" كلمة أعجمية أخرى. قال: "تم إغلاق الحجز والتسجيل".

 

لطالما قفز إلى مخيلتي مشهد سينمائي لرجل متأخر عن طائرته، والتي يصلها بطريقته الخاصة، ذاك الذي قفز من فوق "الكاونتر" وتجاوز الشرطة بذكاء على عين انشغالٍ بتفتيش الحقائب، ولما اصطَدمَ بموظف شركة الطيران، صرخ أنه يريد أن يرى الكابتن، فجاءت اللقطة اللاحقة، وهو يجلس في مقعد الطائرة وقد تمكن من البقاء على متنها، بينما يقطع  سؤال الموظف علي شرودي، "هل من سؤال اخر؟"، و تصطدم عيناي بالشرطي الصارم الذي يحرس المكان، وقد تلاشت الفكرة السينمائية من رأسي، لكنها بقيت كمشهد محتمل، إذا ما لزم السياق، أن تكون في الفيلم القادم. توجهت لشراء تذكرة الانقاذ باهظة الثمن، والتي كعادة كل مكاتب السياحة والسفر وشركات التطيير والطيران، آخر تذكرة في الوجود.

 

يتشكل دوما لدي رابط عجيب بين رقم المقعد والمسافر الذي يحتله، فهذا يشبه الرقم أحد عشر، فهو أنيق كفاية ليركب بالدرجة الأولى لكنه غير مقتدر كفاية، فيشير الواحد الأول لدرجته، والأحد عشر المتشكلة من الواحد الثاني، حُكم المال فيه
يتشكل دوما لدي رابط عجيب بين رقم المقعد والمسافر الذي يحتله، فهذا يشبه الرقم أحد عشر، فهو أنيق كفاية ليركب بالدرجة الأولى لكنه غير مقتدر كفاية، فيشير الواحد الأول لدرجته، والأحد عشر المتشكلة من الواحد الثاني، حُكم المال فيه
 

في مقاعد الطائرة المتراصة، حكايا متراصة، ودراما متشكلة في الوجوه واللباس والهيئة العامة لكل مسافر، هذا رجل أعمال، لكنه عملي آثر الدرجة الاقتصادية، وهذه جميلة، متفاخرة بالدرجة الأولى، تنظر في كل شيء حولها إلا في عينيك. وما زال زقاق الطائرة يكشف عن المزيد من الوجوه، وأنا أبدل النظر بين التذكرة وحقيبتي المنسدحة أمامي وأرقام المقاعد الظاهرة أعلاها.

 

وهنا يتشكل دوما لدي رابط عجيب بين رقم المقعد والمسافر الذي يحتله، فهذا يشبه الرقم أحد عشر، فهو أنيق كفاية ليركب بالدرجة الأولى لكنه غير مقتدر كفاية، فيشير الواحد الأول لدرجته، والأحد عشر المتشكلة من الواحد الثاني، حُكم المال فيه.

 

أما أنا فغالبا ما ينتصر لي الرقم ثلاثة عشر، فتشير الثلاثة لهيئتي الفوضوية وشعري الكث الأشعث، الواحد إلى الجناح الممتد تحت المقعد، فيكون صوته مرافقا لرحلتي الميمونة، فإن لم يكن ثلاثة عشر، فهو ثمانية عشر، وثمانية بكتابتها العربية الأصيلة 18 تشبه كثيرا التواءات شعري.

 

أحب الشباك المطل على الغيوم، ويكتمل سعد سفري بخلو مقاعد جواري من المسافرين، مع أنني ثرثار ماهر، قد أخترع حديثا مع مقعد خالٍ أو مقعد شاغر وكأنه خالٍ من شاغره. وعلى الدوام يطرق رأسي سؤال، ماذا لو رأى أحد فلاسفة العصر الأول مشهد الغيوم من علٍ، وماذا سيكون حُكم فقهاء المذاهب الأولى في صلاة بين وجهتين تختلف الشمس فيهما؟ وماذا لو قدر لصوفي شاطح أن يكتب، لو رآى حقاً كيف يكون مر السحاب؟

 

أصيغ هذه المدونة وقد اقترب موعد هبوطي في اسطنبول، لطالما تغنيت بسلاسة رحلتي لهذه المدينة منذ عهدي الأول بها، وكيف أنها تناديني كل شهرٍ تقريبا في رحلة سريعة أو محطة عبور "ترانزيت" لغيرها من المدن، كأمٍ تذكر ابنها بوصيتها المعهودة، لكنها هذه المرة عاتبة، ردتني مرتين. لحظة- أنا لست في الطائرة الهابطة، أنا في طريقي إلى المطار، وترانزيت كلمة أعجمية، ويبدو أنه قد فاتتني الرحلة من جديد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.