شعار قسم مدونات

مأزق الدولة والدين

مدونات - علماء بشار
لفهم جانبٍ من مأزق الدولة والدين وتفسير الانقسام داخل الخطاب الديني فيما يخص مسائل الشأن العام، لا بد من العودة إلى السياق التاريخي لتَشَكل الدولة في الشرق الأوسط، والكلام عن السياق التاريخي لتَشَكل الدولة يُحيل إلى السؤال عن ملاءمة نموذج "الدولة الحديثة" المستورَد للثقافة والمجتمع الإسلامي، وهو الإشكال الذي شغل العديد من المفكرين العرب والمسلمين منذ نهايات القرن التاسع عشر وكان دافعًا للبحث في شكل الدولة وطبيعتها ووظائفها وكيفية ملاءمة ذلك مع الفقه والتراث الإسلامي.

فالدولة الحديثة في العالم الثالث لم تنشأ -بشكل رئيسٍ- نتيجة لتطورات داخل المجتمع، فقد تركت الحقبة الاستعمارية تأثيراتها الكبيرة على شكل الدولة وطبيعة الحكم فيها، فقامت الدولة على أنقاض "الخلافة الإسلامية" التي كانت منسجمة مع الموروث الفقهي بشكل عام، ولكن تقسيم ميراث الخلافة بناء على اتفاقية "سايكس بيكو" أدى إلى ظهور بنى وهياكل ومؤسسات جديدة أدت إلى تغييرات جوهرية في أمرين: الواقع وقد تجاوب معه الفقه الإسلامي عبر أشكال مختلفة، والأدوار التي كان يقوم بها الدين وعلماؤه، فأدوارهم في الدولة القومية اختلفت عن الأدوار التي شغلوها في مرحلة ما قبل الدولة.

"الدولة الحديثة" التي قامت في "الشرق الأوسط" لم تكن "حديثة" حقًّا؛ فحداثتها حداثة جزئية، فهي لم تفلح في استنبات "الحقل السياسي" الذي استنبتته "الدولة الغربية".

شكّل الدين الإسلامي معضلةً في تشكيل وبناء الدولة القومية التي ورثت الحقبة الاستعمارية وراحت تحاكي النموذج العلماني الغربي على طريقتها الخاصة، الأمر الذي وضعها في مواجهةٍ مع تيار "الإسلام السياسي" الذي يملك مشروعًا مخالفًا لشكل الدولة القائمة ومرجعيتها ووظائفها، ونتج عن هذه المواجهة صراع على تفسير الدين وتمثيله، فقد وجدت الأنظمة الحاكمة نفسها مضطرة إلى إنشاء خطاب ديني خاص بها يقارع أطروحات المناهضين لها على أرضية إسلامية، فشجعت "التقليد" واستولت على إدارة الشأن الديني، سواءٌ عبر وزارة الأوقاف أم عبر مؤسسة الفتوى، ففرضت بذلك رقابة مُحكمة على مسألتين: إدارة الشأن الديني وإنتاج الخطاب الديني، وتمّ لها إقصاء أو تهميش الرؤى المخالِفة حتى مطالع التسعينيات حيث نشأت الفضائيات ومواقع الإنترنت فانفلت المجال الديني العام من الضبط والتحكم، وأفاد من هذا الانفتاح فئتان أساسيتان يشكلان تيار الاحتجاج والدفاع عن "الهوية" المهددة هما: الإخوان المسلمون والسلفيون.

أسهم هذا الانفتاح في إبراز الاختلاف الحادّ بين نموذجين رئيسين للتدين والفتوى اكتنفا الدولة القومية وهما: التدين المندمج في الدولة أو المتصالح معها -وهو ما عُرف بـ "الإسلام الرسمي" – والتدين المستقل عنها والذي يغلب عليه الطابع الاحتجاجي، خصوصًا في شكله الإخواني، وهما شكلان اتضحت بعض خصائصهما من خلال فتاوى الثورات العربية التي عكست هذا الانقسام والاختلاف. فالتدين المندمج في الدولة يرجع إلى الرؤية التي سيطرت تاريخيًّا على التراث الفقهي الإسلامي، وهي فكرة "حكم الضرورة"؛ الحكم الذي غَلَب على عامة الحكومات بعد "الخلافة الراشدة"، وهي حكومات لم تلتزم بشكل كليّ بالشريعة الإسلامية، وخاضت صراعات مع بعض الفقهاء بأشكال مختلفة حول الدين والسلطة، ولكن وقع التسليم لها ما دامت تلتزم بالدفاع عن "دار الإسلام" وتسهل إقامة الشعائر الدينية ولا تصادم الدين مصادمة واضحة (الكفر البَوَاح).

undefined

منعت هذه الرؤية (حكم الضرورة) من "مقاربة حكومات كهذه من وجهة نظر منهجية حول الشرعية والعدالة؛ فهذه الرؤى كانت مخصصة للدولة المثالية" التي تحكم بالشريعة، فمن ناحية "لا يمكن تحدي الحكومة أو تغييرها بتطوير خطاب سياسي طبيعي، بل لا بد من تحديها بصورة جذرية ومطلقة واستبدال حكومة مثالية بها؛ لكونها حكومة دنيوية قائمة على الضرورة. وكان الأمر كذلك لأن الحقل السياسي في العالم الإسلامي لا يرتكز في خطابه أو تطوره إلا على الخطاب المسوّغ أو النافي للشرعية، وبهذا تخرج المعارضة المنتظمة من إطار اللعبة السياسية ويتحول كلّ احتجاج إلى معارضة مطلقة متحدية للنظام" بحسب سامي زبيدة.

ولهذا نجد معظم الخطاب الفقهي التقليدي يتحرك داخل أفق الدولة نفسها، فهو إما مندمج فيها أو مسلِّم لها ولكنه يطالب ببعض التغييرات الجزئية، فهو لا يحمل مشروعًا سياسيًّا أو تغييريًّا، بل يعتبر أي خروج على هذا التسليم بحكم الضرورة خروجًا على الدين الذي استقرّ الإجماعُ عليه، فلم يتم الاعتراف بفكرة "المعارضة" داخل الفقه الإسلامي بشكل عامّ، فضلاً عن توفير هامش منهجي ونظامي وداخلي لها، ولذلك كانت كل معارضة تتحول إلى تمرد مدان وفق التصور الفقهي التقليدي.

بعيدًا عن تيار الاحتجاج انخرط عامة الفقهاء في وظائفهم التقليدية في التعليم والدعوة وتَصَالحوا مع الدولة القائمة، وتَسَلم بعضهم مناصبَ فيها، وتنوعت أشكال مساندتهم للنظام.

وهذا أحد الجوانب التي يتضح فيها أن "الدولة الحديثة" التي قامت في "الشرق الأوسط" لم تكن "حديثة" حقًّا؛ فحداثتها حداثة جزئية من حيث أشكال التنظيم والإدارة والحكم وليس معناه أنها حديثة بالمعنى الغربي، فهي لم تفلح في استنبات "الحقل السياسي" الذي استنبتته "الدولة الغربية"، فبقيت أشبه بالدولة الأبوية التي تفرض وصايتها على مواطنيها، وتتماهى فيها شخصية الفرد الحاكم مع الدولة ويمثل أحدهما الآخر، ويتم فيها توزيع الموارد القومية على أساس الحسابات السياسية من أجل ضمان الولاء للشخص والنظام، ولاستباق الصراعات المُهدِّدة للنظام ونزع فتيلها، وهنا يشكل الدين أحد أهم أدوات "تربية" جمهور المواطنين وتطويعهم لإرادة الدولة باسم إرادة الله والشرع، عبر القيادات الدينية التي تنتج الخطاب نفسه وبعضها يعمل كجزء من جهاز الدولة ويجسد إرادتها، فلا وجود مستقلاً عنها.

خارج هذا الشكل القائم للدولة، مرّ التفكير الإسلامي الحديث بالدولة بثلاث مراحل تاريخية متميزة: المرحلة الأولى مع رفاعة الطهطاوي (1834م) وخير الدين التونسي (1867م) وغيرهما من الذين طمحوا إلى "الدولة التحديثية" بعد أن رأوا أن "السيل الذي لا يمكن دفعه" المتمثل بالغرب الزاحف لا يواجَه إلا بدولة عصرية قوية تقود عمليّات التجديد في التعلم من الغرب وفي مقاومة سيطرته العسكرية والسياسية بوسائله الفعالة التي يستطيع المسلمون اكتسابها واستخدامها.

وتتمثل المرحلة الثانية في مقولة "الدولة المدنية" مع محمد عبده (1905م) وعلي عبد الرازق الذي كتب "الإسلام وأصول الحكم" (1925م) ورأى فيه أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كانت مهماته دينية فقط، في مقابل أطروحة "الخلافة الإسلامية" ذات المهمات الدينية. أما المرحلة الثالثة فتتمثل في مقولة "الدولة الإسلامية" التي تطورت لاحقًا في السبعينيات إلى فكرة "النظام الشامل" مع حسن البنا (1948م) وحركة الإخوان المسلمين. تخلل تلك المراحل الثلاثة توجهاتٌ وأفكار متعددة، بعضها معارضٌ للدولة الوطنية الحديثة التي سادت وبعضها متصالح معها، وهو ما ترك أثره على المواقف الدينية من الثورات العربية.

undefined

وعلى حين أن المرحلتين الأولى والثانية بقيتا أقربَ إلى الفكرة منها إلى المشروع، فإن المرحلة الثالثة (الدولة الإسلامية) شكّلت مشروعًا حَمَلته حركة شعبية ممتدة لعقود تبنّت "العمل الحركي" -وهو ما سُمي بالإسلام السياسي-، ويتلخص مشروعها في العمل على إقامة الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي وتطبيق الشريعة، ولذلك خاض هؤلاء العمل السياسي إلى جانب العمل الدعوي والفقهي وإصدار الفتاوى، وأصبحوا يمثلون ما يمكن تسميته بتيار الاحتجاج أو المعارضة ليس للأنظمة القائمة فقط، بل للمؤسسة الدينية الرسمية أيضًا، التي تم استتباعها من قبل الدولة وتحولت إلى جزء من جهازها لخدمة النظام القائم وتوفير الغطاء الديني وتوفير المسوغات الدينية له حين يحتاجها، فمهمتها دومًا هي مساءلة تصرفات "المؤمنين" وليس "الدولة" أو الحاكم، فهي تمثل سلطة الردع للضمير الديني إلى جانب السلطة الأمنية للدولة التي تمثل سلطة الردع النفسي والإكراهي وكلاهما يقوم على صناعة "فقه الطاعة" وصياغة "المواطن الصالح" دينًا ودنيا.

الشخصيات التي تَسَلمت المناصب الدينية وحظيت بدعم الأنظمة، هي نفسها التي وقفت إلى جانب الأنظمة في الثورات العربية، وهي نفسها التي عارضت نهج "الإسلاميين" الحركيين.

بعيدًا عن تيار الاحتجاج انخرط عامة الفقهاء في وظائفهم التقليدية في التعليم والدعوة وتَصَالحوا مع الدولة القائمة، وتَسَلم بعضهم مناصبَ فيها، وتنوعت أشكال مساندتهم للنظام، فهي تارة تكون بدعوة الأتباع إلى اعتزال السياسة وتقديم تدين مقصور فقط على الشأن التعبدي/الصوفي، أو بتأييد مرشحي الحزب الحاكم في مقابل خصومهم كما وقع من الشيخ "أحمد كفتارو" مفتي سوريا طيلة حكم "حافظ الأسد" وبداية حكم "بشار الأسد"، أو بتأييد سياسات الدولة في مواجهة الإسلاميين في مرحلة الصِّدام كما وقع من "البوطي" مثلاً منذ الثمانينيات وحتى الثورة السورية، أو بتوفير المواقف الدينية والفتاوى في التوقيت الملائم للسلطة، كما حصل من الأزهر ومؤسسة الفتوى في مصر في مراحل مختلفة.

ليس غريبًا بعد هذا أن الشخصيات التي تَسَلمت المناصب الدينية وحظيت بدعم الأنظمة، هي نفسها التي وقفت إلى جانب الأنظمة في الثورات العربية، وهي نفسها التي عارضت نهج "الإسلاميين" الحركيين، فشيخ الأزهر "أحمد الطيب" ينتمي إلى "الحزب الوطني" الحاكم، ومفتي مصر "علي جمعة" ومفتي سوريا (أحمد كفتارو ثم أحمد حسون) و"البوطي" هم من المعارضين بشدة لجماعة "الإخوان المسلمين".

بل إن "البوطي" بدأ منذ الثمانينيات يكتب ضد منهج الإخوان في السعي إلى الحكم ليوضح أن إقامة المجتمع الإسلامي ليست مهمة الحكام بل مهمة جميع الأفراد، ولا علاقة للوصول إلى السلطة بإقامة المجتمع الإسلامي. من هنا يصبح ذا مغزى تلك الإشارات المتكررة من "فقهاء الدولة" لمسألة انتماء "القرضاوي" إلى "الإخوان المسلمين" أو الإشارة إلى "حزبيته" في معرض الرد على فتاويه وتصريحاته المؤيِّدة للثورات، فتلك الردود السجالية لا تحتفي بحججه الفقهية؛ بقدر ما تهتم بانتمائه وتحيزاته السياسية لنزع صفة "الشرعية" عن مواقفه المخالِفة لتعاليم الدين بحسب فهمهم، دون أن يعوا أن تحيزه يقابلُ تحيزاتهم أيضًا وهم ينطقون بلسان حال هذا النظام أو ذاك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.