شعار قسم مدونات

وقدْ أفلحَ اليومَ من اسْتعلى

blogs - تجمع الفلسطينيين أمام القدس
لمْ يَكُنِ الطغيان يومًا ليبقى، وما جعل الله لطاغوتٍ من قبلُ الخُلد، (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ ).. هي سنة الله في الذين خَلَوا من قبل وفينا من بعدهم، والعاقبة لمن اتقى وصبر، وأجر المحسنين عند الله لا يضيع، فهذه أم موسى عليه السلام تفقد فلذة كبدها، وقرة عينها، تُلقيه في اليمِّ استجابة للأمر الربانيِّ ليصبح فؤادها فارغًا من كل شيء عدا موسى، ليحيل قلبُها قفْرًا إلا من موسى، ليتكدَّس الحزن فيه قطعًا من فوقها قطع، وما أشبه فؤاد أم موسى بحال المسجد الأقصى فارغًا يشتاقُ لمعكتفيه، لمصليه، لرهبان الليل، لتلاوة في محرابه، لتهجُّدٍ في الأسحار، بعد أن تَلَا فيه فرسان النهار المحمدون آيات الحب وقدموا القربان، لتمتزج دماؤهم الطاهرة بساحه فتُزيل عنه شيئًا من دَنس الأنجاس، ثمَّ ليأتيَ قرار الطاغوت بإغلاقه ظلما وعتوا، وكأنه وحي السماء ذاته يقول للأقصى ألقِ بأحبابك في اليمِّ حيث جموع الغاصبين أعداء الله توعدت بالتنكيل وإحكام الخناق، بالترهيب والوعيد.

استعلى أهل القدس والرباط فكانوا هم الأعلى، فقدَّموا الشهداء محمدٌ يتلوه محمدٌ فيتلوه محمد، ثلاثةٌ من قبلُ وثلاثةٌ من بعد واثنان بينهما، كلُّهم كانوا محمد، وكأنها الأرض حنَّتْ لاحتضان محمد.

كادتْ أمُّ موسى عليه السلام أنْ تُبديَ حزنها على هذا الفراق الجلل والخطب العظيم، فجاء رباطُ الله عز وجلّ على هذا القلب المكلوم مثبتا له، وكذا كان حال المسجد الأقصى يكاد لا يخفي عَبْرةً ترقرتْ من صحن قبة الصخرة، عرجتْ على مُتوضأ الكأس لتغتسل طهورًا بمائه، فتصليَ تضرُّعًا في محراب المُصلَّى القبليِّ، في حين انشغلت بالعناق والبوح قبَّتان من رصاصٍ وذهب، لتتنزَّل طمأنينة من السماء كما تنزَّلتْ على أمِّ موسى، (وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ).. تبشِّر المسجد الأقصى أن مصلِّيك وأهلك عائدون إليك، وإنَّا رادُّوهم لا ريب، وما أُخرجَ هؤلاء العاشقون من ساحاتك إلا ليكونوا عدوًّا وحَزَنًا لهؤلاء المجرمين، هؤلاء العاشقون الذين ربط الله على قلوبهم ليكونوا من المؤمنين، هؤلاء الذين ألقى الله عليهم محبة منه وكان معهم يسمع ويرى.

فأذَّن مؤذن في الناس من خارج ساح مسجده الأقصى باكيًا لم يعتدْ ألا يعانقَ ناظرُه القبلةَ الأولى، ينادي: يا أهل الأقصى! إنَّما الأقصى عقيدة! يا أحبابه! يا معتكفيه! يا مرابطيه! هلمُّوا لنداء الأقصى، هبُّوا لنصرته، لتلبِّيَ الجموع النداء ويأتوا الأقصى رجالًا وعلى كل ضامر يأتون من كل فجٍّ عميق، ملبين دعوات الرباط والاستنصار، مُقدمين لا مدبرين، وحَّدوا صفوفهم فإذا نودي للصلاة سعوا إلى ذكر الله وذروا وراءهم دنيا رخيصة باغين سلعة الله الغالية، قاصدين الجنة، ثمَّ اصطفُّوا للصلاة فاستوتْ قلوبُهم وكذلك أقدامهم، كلٌّ منهم يحمل همَّ الأقصى في قلبه، كلٌّ منهم يقول: لبيك يا أقصى! لبيك إسلام البطولة كلُّنا نفدي الحمى، لبيك واجعل من جماجمنا لعزِّك سُلَّمًا! كان الخطاب والنشيد الإسلاميين المؤجج الأعظم للمشاعر والوجدان بين صفوف المرابطين على تخوم المسجد الأقصى، وهذا ما قاله أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: كنَّا أذلَّ أمَّة فأعزَّنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.

أجملُ ما في الرباط أنَّك تستشعر فتوحات المسلمين، وجهاد الصحابة، وغزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنَّ شعور الخوف يهجرك، تُقدمُ ولا تعلم أنك ستحيا أم ستموت لتحيا، ربما لم يسمع بك أحد، وربما لست صاحب شأن أو مال، ولكنك حين تصرخ:ُ الله أكبر! في وجه الغاصبين، فيصرخُ الجمعُ من خلفك، قد بايعوك قائدَهم بمشورة القلب والجوارح، تعرفُ كمْ أنَّ الحياة في سبيل الدنيا رخيصة، وما أعظمها في سبيل الله، ولسانُ حالك يقول: إنِّي لأجدُ ريح الجنان لولا أنْ تفندون، واستمرَّ المقدسيون ومن معهم في رباطهم المُعلن على بوابات المسجد الأقصى رافضين أن يعطوا في مسجدهم الدنيَّة، يقارعون بالدليل والبرهان، بالثبات والرسوخ، مفوضين أمرهم إلى الله، فوقاهم سيئاتِ ما مَكرَ أمثالُ فرعون ممن خَلَفوه، وفي يوم الجمعة تولَّى فرعون وجمع كيدَه ثمَّ أتى.

الجسد يرتعش توَّاقًا ليقيم فيه صلاة الحب وطقوس العشق بعد الحرمان، فما حالُ قائمة الحرائر الذهبية حين يسجدن على أعتابه ويبحْنَ بما حلَّ بهن من طول الغياب، بما لاقَيْنَ من صنوف العذاب في سبيله.
الجسد يرتعش توَّاقًا ليقيم فيه صلاة الحب وطقوس العشق بعد الحرمان، فما حالُ قائمة الحرائر الذهبية حين يسجدن على أعتابه ويبحْنَ بما حلَّ بهن من طول الغياب، بما لاقَيْنَ من صنوف العذاب في سبيله.


أجمع أهلُ الباطل كيدَهم ثمَّ أتَوْا صفًّا، وقالوا: 
قدْ أفلحَ اليومَ من اسْتعلى، فاستعلى أهل القدس والرباط فكانوا هم الأعلى، فقدَّموا الشهداء محمدٌ يتلوه محمدٌ فيتلوه محمد، ثلاثةٌ من قبلُ وثلاثةٌ من بعد واثنان بينهما، كلُّهم كانوا محمد، وكأنها الأرض حنَّتْ لاحتضان محمد، وكأنَّها السماء اشتاقت لروح محمد، وعلى باب الأسباط كبرت الجموع جحافلا تزفُّ شهداءها، وترفعُ أيديها إلى السماء، تناجي خوافقهم ربَّ السماوات والأرضين، ربنا تقبل منَّا! ربنا لا تحرمنا الشهادة، ربنا إنَّا نشكو إليك ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، فلا تكلنا لغيرك! لم تُثنهم اغتيالات بني صهيون عن مواصلة الطريق، وكانوا في كل يومٍ يزدادون قوةً ورباطة جأش ولسان حالهم يقول: (لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)..

قطع أهل القدس والمرابطون شوطًا عظيمًا في سبق النصر والغلبة، وفرضوا قواعدهم على الاحتلال رافضين القعود والتخاذل وأسباب الأعذار، ولم يلتفتوا لمن خذلهم.

(قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).. وبهذا اليقين الراسخ قطع أهل القدس والمرابطون شوطًا عظيمًا في سبق النصر والغلبة، وفرضوا قواعدهم على الاحتلال رافضين القعود والتخاذل وأسباب الأعذار، ولم يلتفتوا لمن خذلهم، فكلٌّ يختار الصفَّ الذي يريد أن يكون فيه، وهما فسطاطان: إما أن تنصر الأقصى وإما أن تتخاذل، وللتاريخ أن يكتب وللأرض أن ترقب ولرب الأرضين والسماوات أن يحكم، بك وبدونك فإن الأقصى منتصر رابض على أرض مقدسة، وعراه وثيقة متصلة بحبل الله، فمن أحب الله، صَدَقَ حبَّه بنصرة الأقصى، وإلا فإنه مُدَّعٍ، وأي حبٍّ يصحُّ دون بذل وعطاء، وأي حبٍّ هو ذا دون انتماء، فإلا تنصروه فقد نصره الله من قبل، ومن خذله لم ينل إلا خزيا وذلا وعارًا، فالتاريخ يحفظ الأفعال والأسماء، فاختر موضعك؛ إما أن تكون متن النص وإما على الهامش ملفوظًا، وقد خاب من حمل ظلمًا.

فطوبى للغرباء! طوبى لكلِّ مستضعَف، لكلِّ مُطارد، لكلِّ سجين، لكلِّ مُتعبٍ يفدي دينه ووطنه ومقدساته بالروح والمال، بالعلم بالقلم، بالهمم الراسخات، (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْض).. (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً).. إمامةٌ من قلب الضعف والهوان، إمامةٌ رغم التجويع والتشريد والتنكيل، إمامةٌ رغم الوعيد والتهديد، ثم يكون النصرُ والغلبة، وتكون أرض الله لعباد الله الصالحين، (وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)..
(وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ).. ثمَّ تأتي لحظةُ الانتصار الأعظم، وتكون الغلبة لأهل التقوى والصبر، لأصحاب اليقين، وسيلقى فراعنة وهامانات هذه العصر ما كانوا يخشونه ويخافونه، (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ).. ألا إنَّ وعد الله حقّ وإنَّا منتظرون.

ما حالُ منْ لم يهجر الأقصى يومًا؟ منْ لم يغبْ عن صلاةٍ فيه، أتراه أعياه فرط البعاد، وإنَّي لأعلمُ أنَّ القلب لا يطيق صبرًا ليسجد في محاريبه، وأنَّ العينين الباكيتين لتنحبا شوقًا للقائه، وأنَّ الجسد يرتعش توَّاقًا ليقيم فيه صلاة الحب وطقوس العشق بعد الحرمان، ما حالُ قائمة الحرائر الذهبية-الممنوعة- حين يسجدن على أعتابه ويبحْنَ بما حلَّ بهن من طول الغياب، بما لاقَيْنَ من صنوف العذاب في سبيله، ولكن.. ما حالُ منْ لم يعرف الأقصى يومًا، ما حالُ من استبدل الأقصى بأصنام يعبدها، ما حالُ من لم يأتِ حتى ببضاعة مزجاة؟! يبدو أنَّ حالهم: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ).. أفلا يهتدون؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.