شعار قسم مدونات

جمهورية البلح

midan - السيسي

في مجموعته القصصية "ملفوف وملوك" أطلق الكاتب الأمريكي أو.هنري تعبير "جمهورية الموز" قاصداً بها جمهورية هندوراس في أمريكا الوسطى حيث كان نظامها الديكتاتوري يسمح ببناء مستعمرات كبيرة من الموز مقابل اتاوة على صاحبها، ثم أصبح الوصف يُطلق استهزاءً على الدول التي يحكمها أنظمة دكتاتوريات استبدادية قمعية، أما مصر المتفردة فأبت أن تندرج تحت هذا الوصف لتخترع وصفاً جديداً يمكن أن نُطلق عليه "جمهورية البلح."

 

ويطلق الكثير من المصريين وصف "بلح" على الأشياء التافهة التي لا يجب تهميشها وعدم وضعها في الاعتبار أو الأشخاص التافهين عديمي الأهمية أو عديمي الكفاءة الذين لا يجب أن يكون لها شأن أو يوضع لهم اعتبار، أو على الأحداث الغريبة التي لا تكاد تُصدق من فرط غبائها، كما أن الاسم الذي اختاره المخرج الكبير الراحل عاطف الطيب لأحد شخصيات فيلمه "الدنيا على جناح يمامة" كان مُلهماً للكثيرين في مصر لاختصار الكثير مما يطول وصفه، وقد اختار الطيب اسم "بلحة" لأحد نُزلاء مستشفى الأمراض العقلية، وهو نفس الاسم الذي اختاره المصريون معبراً عن هذه المرحلة الخرافية التي يعيشها الوطن ورمزاً للمسؤول عن الكابوس الذي يعيشونه.

 

من غرائب وعجائب جمهورية البلح شرعنة التنكيل والظلم بالمعارضين بإضفاء مكياج قانوني على إجراءات لا تمُت للقانون ولا الدستور بشيء، مثل منع العديد من النشطاء من السفر سنوات كاملة دون توجيه اتهام واحد لأي منهم

ففي جمهورية البلح يتم القبض على المئات من الشباب بتهمة الكتابة على صفحاتهم الشخصية دفاعاً عن قطعة من وطنهم يتم اقتطاعها والتنازل عنها علناً، في الوقت الذي تحتفل وتحتفي فيه السلطة بكل شخص يبرر هذا الجُرم فأضحت الوطنية خيانة وعمالة والتفريط في أرض شرف ووجاهة، وما يزيد الأمر عجباً أن أحد الذين تم اخلاء سبيلهم بعد القبض عليه بتلك التُهمة العجيبة -وهو المحامي الشاب طارق حسين- لا يتم الافراج عنه بل يتم اختراع 11 قضية له بدعوى تشابه الأسماء، ويتم ترحيله إلى أقسام الشرطة ومديريات الأمن من الخانكة إلى مصر الجديدة ومن المرج إلى الضاهر ثم السلام وامبابة واسكندرية ومطروح في قيظ الحر وهو صائم للتحري عنه واثبات أنه غير المقصود في تلك القضايا، ومنها قضية تبديد منقولات زوجية يعود تاريخها لسنة كان لا يزال يدرس فيها بالمرحلة الإعدادية، كل ذلك بالرغم من إصداره مؤخراً صحيفة حالة جنائية لتقديمها لنقابة المُحامين لاستخراج بطاقة ممارسة المهنة خلت من أية أحكام أو تُهم، وما ذلك إلا لتكديره والامعان في التنكيل به!

 

كما يمكنك أن ترى أيضاً في جمهورية البلح محاكمة تُعقد لمحامي حقوقي -نجاد البرعي -بتهمة الاشتراك مع اثنين من القضاة لقيامهم بإعداد مشروع قانون للوقاية من التعذيب، ويتم توجيه 6 اتهامات له تُثير الضحك والأسى في آن واحد من فرط عجبها مثل " إعداد مشروع قانون ضد التعذيب، والضغط على رئيس الجمهورية لإصداره، ومناقشته في ندوات عامة"، كما يتم إحالة القاضيان "عاصم عبد الجبار، نائب رئيس محكمة النقض، وهشام رؤوف، الرئيس بمحكمة استئناف القاهرة" إلى مجلس "التأديب" والصلاحية بتلك التُهم العجيبة!!!

 

ومن غرائب وعجائب جمهورية البلح شرعنة التنكيل والظلم بالمعارضين بإضفاء مكياج قانوني على إجراءات لا تمُت للقانون ولا الدستور بشيء، مثل منع العديد من النشطاء من السفر سنوات كاملة دون توجيه اتهام واحد لأي منهم ودون ورود ذكر اسمهم فأية قضايا مطروحة أمام القضاء، ويتم منع أخرين من الدخول إلى مصر بلا أية مبررات قانونية أو حتى قرارات منع رسمية ودون أية اتهامات، ويتم الحكم على بعضٍ أخر بعقوبات مهينة ومُذلة لا صلة لها بالعدل مثلما يحدث مع المهندس أحمد ماهر والناشط زيزو عبده وغيرهم، والذين تم الحكم عليهم بقضاء 12 ساعة يومياً داخل قسم الشرطة كإجراءات احترازية، 12 ساعة كُل يوم يجلس فيها كُلٌ منهم داخل ممر القسم من المساء وحتى صباح اليوم التالي لا لشيء إلا لكسر عزيمتهم وقهرهم، بل ويتم الاعتداء عليهم إذا ما تأخر أحدهم 5 دقائق لأي ظرف طارئ أو قاهر، وكأن التأخير بضع دقائق جريمة والاعتداء عليهم واجب!

 

أما عجب العجاب في جمهورية البلح فهي القرارات الرسمية التي تتخذها الحكومة والتي تفتك بالملايين فقراً وجوعاً والتي يتم التمهيد لها في كل مرة بنفي صدورها أو حتى وجود نية لذلك، ثم يفاجئ الناس في صباح اليوم التالي على الكارثة الجديدة، مثلما حدث في فضيحة تعويم الجنيه الذي تلاعبت الدولة بكامل أجهزتها بالناس لشهور ثم اصدار القرار في فجر يوم مفاجئ دون أي إجراءات احترازية تقي الناس من تبعات القرار

 

إن ما تشهده مصر اليوم فترة كئيبة مُظلمة سيأتي اليوم الذي تقرأ فيها الأجيال وقائعها وتتعجب من هذا البلح المغمس بالألم والقهر والظلم والدم، حقبة زمنية قضت السلطة فيها على الأخضر واليابس لتعزيز جبروتها واجرامها والتغطية على الثروات التي يتم نزحها للخارج

 بل إن الأشد بلحاً في تلك الجريمة أن يخرج أعلى مسؤول مصرفي في البلاد مطمئناً الناس باقتراب سعر الدولار لنصف ما كان عليه من قبل وبعد حدوث الكارثة يخرج قائلاً ان تصريحه كان "نكتة"، ومثلما حدث في قرار رفع أسعار الوقود الذي تم نفيه قبل إصداره بأيام ثم فوجئ الناس بالخراب والغلاء، وكأن هؤلاء الملايين من البشر أسرى لا دية لهم يتم التلاعب بأرزاقهم ومعيشتهم من قبل مسؤولين مجرمين آمنين في دولة البلح!

 

وفي ركن أخر يقطُر حُزناً وألماً من أركان جمهورية البلح تجد 6 أفراد يتم الحكم عليهم نهائياً بالإعدام بتهمة قتل رقيب شرطة من قوة تأمين منزل أحد القضاة بالرغم من عدم وجود شاهد واحد في القضية، وبالرغم من عدم وجود أي دليل مادي من تسجيلات أو غيرها يُدينهم، لا شيء سوى تحريات ضابط أمن كتبها بناءً على معلومات من مصادر سرية رفض الإفصاح عنها أمام المحكمة، والدليل الأخر عبارة عن اعترافات مُسجلة للمتهمين أكدوا للمحكمة أنهم أدلوا بها تحت التعذيب الشديد، لنجد أن 6 أرواح يتم اتخاذ قرار بإزهاقها دون أي دليل سوى كلام حضرة الضابط!

 

إن ما تشهده مصر اليوم فترة كئيبة مُظلمة سيأتي اليوم الذي تقرأ فيها الأجيال وقائعها وتتعجب من هذا البلح المغمس بالألم والقهر والظلم والدم، حقبة زمنية قضت السلطة فيها على الأخضر واليابس لا لشيء إلا لتعزيز جبروتها واجرامها والتغطية على الثروات التي يتم نزحها للخارج، حقبة مقيتة لا سبيل لنا اليوم لمعرفة كيف ستكون البلاد بعدها ولا كيف تخرج منها، ولا نملك إلا التمسك بالأمل في بلوغ وطن العدل والحرية.

الحرية لمصر

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.