شعار قسم مدونات

لا تقولي إنك خائفة!

مدونات - سامية يوسف
– أبي، أنا سريعة كالغزال، ولكنني لست بغزال..
– لنسمع منك، كيف يمكنك أن تهزمي هؤلاء الشباب الذين يكبرونك سنا؟
– بأن أعدو أسرع منهم يا أبي! ربما ليس بعد، ولكن، يوما ما، سوف أصبح أسرع عداءة في مقديشو، بأكملها..اسمي سامية يوسف عمر، هل سمعتم بهذا الاسم من قبل؟ لا؟ حسنا، سأحكي لكم قصتي في بضعة أسطر، وسأحاول الاختصار حسب ما يسمح به حجم التدوينة..

ولدت في مقديشو، عاصمة الصومال، في 25 مارس عام 1991، والدي رجل بسيط يتاجر في الملابس المستعملة، والدتي ربة بيت، ولي إخوة أقربهم لي هودان شقيقتي الكبرى وصديق في مثل سني يدعي علي. منذ سنوات طفولتي الأولى وأنا مدركة بأن الله قد حباني بموهبة لم تكن متوفرة بين أقراني، بمن فيهم علي نفسه.

خوف طبيعي كان يدفعني في كل مرة لطرح السؤال على والدي: – ألا تخشى الحرب يا أبي؟ فيجيبني بجدية: لا تقولي إنك خائفة، أبدا، يا صغيرتي سامية، أبدا، وإلا فإن ما تخافينه، سيتعاظم حتى يهزمك.

الركض..
كنت مثل الفراشة، أسابق الريح بساقي النحيلتين، وأحظى بالتشجيع، بعدما توقع لي الجميع مستقبلا باهرا أصل فيه إلى مراتب عالمية متقدمة أتجاوز في أحلام الهواية إلى واقع الاحتراف. ولكن هيهات، عندما يتحد الفقر والجوع والحرب، فأنت مطالب بإقبار أحلامك وخنقها في تابوت النسيان.

ما ذنبي في أن أولد في بلد غرق بسرعة مرعبة في دوامة الحرب الأهلية، والمعارك المستعرة واللامتناهية بين العصابات المسلحة، وعشائر هاوية ودارود وأبجال المتناحرة منذ بداية التسعينات، قبل أن تأتي حركة الشباب المتطرفة لتفرض سيطرتها وسطوتها على الجميع؟ كيف لي أن أتدرب بغية تحقيق حلمي، والملعب الوحيد في مقديشو، تزين جدرانه ثقوب الرصاصات وآثار المدافع، وتحاصره العصابات المسلحة؟

خوف طبيعي كان يدفعني في كل مرة لطرح السؤال على والدي:
– ألا تخشى الحرب يا أبي؟
– فيجيبني بجدية: لا تقولي إنك خائفة، أبدا، يا صغيرتي سامية، أبدا، وإلا فإن ما تخافينه، سيتعاظم حتى يهزمك.

وبالفعل، شاركت في سباقات محلية تجاوزت فيها الجميع وحققت الرتبة الأولى رغم سني الصغيرة، ونجحت في الوصول إلى أول سباق لي خارج الصومال، هناك في جيبوتي، كل هذا وأنا أتدرب خلسة في الملعب بعد حلول الظلام، رفقة علي، مدربي مذ كنا في الثامنة من عمرنا، قبل أن تجبره الحرب والأصل القبلي البغيض على الرحيل، خوفا على حياته وحياة أهله، لأتدرب وحدي في الملعب، رفيقي الوحيد ضوء القمر!

مر كل شيء بسرعة، فزت بسباق جيبوتي، أثار ذلك انتباه اللجنة الأولمبية الصومالية التي قررت تجهيزي للألعاب الأولمبية التي ستنظمها بكين عام 2008، في وقت لم أكن أتجاوز فيه السابعة عشرة، فكان علي التدرب بجد، أنا التي أحلم فقط بلباس وبحذاء رياضي مريح، واضعة نصب عيني صورة مهترئة اقتطعتها من جريدة، للبطل الصومالي الذي يركض تحت علم بريطانيا، محمد فرح، والذي اعتبرته مثلي الأعلى والنموذج الذي سأحتذي به.

ووسط كل هذا، مات والدي مقتولا في ظروف غامضة.. فقدت السند، الذي آمن بقدراتي منذ البداية، وتابع حلمي وبذل كل ما في وسعه لمساعدتي على تحقيقه. كان موته مثل الخنجر الذي مزق أحشائي، لكنني لم أيأس.. شاركت في دورة الألعاب الأولمبية في بكين، وكانت تجربة لا تنسى، كيف لا وقد سمحت لي هذه التجربة بتناول أطعمة شهية لم تزر معدتي من قبل، والغطس في حوض استحمام لأول مرة في حياتي؟

خضت سباق الـ 200 متر مع البطلة العالمية الجامايكية فيرونيكا كامبل-براون التي لم أكن أسمع اسمها سوى في المذياع، وبدوت وسط العداءات الحسناوات المتمتعات بالتغذية السليمة والتدريبات المتطورة والجسد الرياضي القوي والمتناسق كطفلة صغيرة بساقي الدقيقتين وبنيتي الضعيفة.

حللت في الرتبة الأخيرة، وبفارق كبير عن المتسابقات الأخريات، لكنني انتزعت إعجاب الجميع، رغم أنهم وجدوا في قصتي نموذجا للنجاح لكن على الطريقة التي تدغدغ مشاعر الغرب، الفتاة الضعيفة التي جاءت من بلد تمزقه الحرب لتشارك في سباق وتحل في الرتبة الأخيرة..

للأسف الشديد، توفيت سامية يوسف عمر رحمها الله يوم 2 أبريل 2012 عن عمر يناهز الواحدة والعشرين، وهي تحاول الوصول إلى الحبال التي ألقتها قوارب الإنقاذ الإيطالية في عرض البحر الأبيض المتوسط.

طموحي أكبر من هذا، سأتدرب بجد وأعود في دورة لندن 2012، لأفوز بالسباق وأحل في المرتبة الأولى. عدت إلى مقديشو وتحولت إلى بطلة قومية مشهورة، تصلني الرسائل المشجعة والمتضامنة من جميع أنحاء الصومال ومن خارجها، كما تلقيت أيضا تهديدات بالقتل ممن لم يعجبهم نجاحي كامرأة مسلمة.. حاولت التأقلم مع الوضع الذي يزداد تأزما في مقديشو، لكنني عجزت عن ذلك، فحلمي بالتحول إلى بطلة أولمبية يعني استفادتي من إمكانيات لا تسمح بها مقديشو ولا لجنتها الأولمبية الفقيرة.

خضعت أخيرا لإلحاح صديقتي الأمريكية التي تابعت قصتي، ثم سافرت إلى العاصمة الإيثيوبية أديس أبابا، وهناك شاء القدر أن أكرر نفس قصة مقديشو وأتدرب خلسة في ملاعب أديس أبابا رفقة ضوء القمر، لأن الوثائق القادمة من الصومال تأخرت، وربما لم تكن لتأتي أبدا! دورة لندن تقترب، ولا حل أمامي سوى الهجرة إلى أوروبا للبحث عن أفق أفضل يسمح لي بالتدرب والوصول إلى الألعاب الأولمبية في أفضل صورة ممكنة.

وبدأت رحلة العذاب والهلاك..
من إيثيوبيا إلى السودان، ومنها إلى أهوال الصحراء بين السودان وليبيا التي عانت من اضطرابات خطيرة واكبت وأعقبت مقتل القذافي، عندما كان الموت أرحم بكثير من تلك البشاعة التي عايشتها رفقة المئات من المهاجرين القادمين من مختلف الدول الإفريقية باحثين عن بارقة أمل في مستقبل أفضل، هناك في أوروبا..

ساعدتني شقيقتي هودان بدعمها وأموالها التي كانت ترسلها لي من فنلندا مقر قامتها رفقة زوجها وابنتها منار، ووصلت بعد أعاجيب يشيب لهولها الولدان إلى طرابلس، وأيقنت بأنه لم يعد يفصلني عن حلمي بالوصول إلى مضمار السباق في لندن سوى بحر متلاطم الأمواج لم يكن لينافس في غدره رمال الصحراء التي تركنا فيها جثث الكثيرين ممن عجزوا عن المواصلة..

حققت الرواية "لا تقولي إنك خائفة" شهرة عالمية واسعة، وترجمها إلى العربية المترجم السوري معاوية عبد المجيد، وصدرت عن منشورات المتوسط عام 2016، وهناك عمل على تحويلها إلى فيلم سينمائي.

للأسف الشديد، توفيت سامية يوسف عمر رحمها الله يوم 2 أبريل 2012 عن عمر يناهز الواحدة والعشرين، وهي تحاول الوصول إلى الحبال التي ألقتها قوارب الإنقاذ الإيطالية في عرض البحر الأبيض المتوسط، قبل أشهر قليلة من انطلاق دورة الألعاب الأولمبية في لندن، وخلفت قصتها ونهايتها المأساوية صدمة كبيرة لدى كل المتتبعين.

تحول محمد فرح مثل سامية الأعلى إلى بطل قومي في بريطانيا والصومال على السواء بعدما فاز بسباقي ال 5000 و10000 متر في دورة الألعاب الأولمبية التي نظمتها لندن عام 2012، وكانت صورته الشهيرة رفقة يوسن بولت تجسيدا مثاليا للقاء السرعة والقوة، لكن أحدا لم يتجاهل سامية، رمز التحدي والإصرار حتى الموت.

تعرف الكاتب الإيطالي جيوزيبي كاتوتسيلا على قصة سامية بالصدفة عندما كان في كينيا، يومها قدمت قناة الجزيرة تقريرا عنها في إحدى نشراتها الإخبارية، صعقته الأحداث، فقرر العودة إلى إيطاليا، ومنها إلى فنلندا حيث تقطن هودان شقيقة الراحلة سامية، وهناك تتبع خطوات الحكاية، ليؤلف رواية رائعة ومؤثرة حملت وقت صدورها عام 2014 عنوان "لا تقولي إنك خائفة"، تتناول قصة سامية كما لو كتبتها هي.

حققت الرواية شهرة عالمية واسعة، وترجمها إلى العربية المترجم السوري معاوية عبد المجيد، وصدرت عن منشورات المتوسط عام 2016، وهناك عمل على تحويلها إلى فيلم سينمائي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.