شعار قسم مدونات

ويلك آمن

blogs الأمومة
يتقن الإنسان منا التنظير، نظن أننا سنجيد هذا وذاك، ولكن كما تقول الحكمة الشعرية "نجينا من الشرير.. نجينا من التجربة" نسقط في التجربة فنكتشف أننا في بحر بلا قارب ولا مجداف، وأقصى ما نجيده هو الترفيص بالقدمين على أمل أن نطفو، لكننا لا نطفو بل نسقط عميقًا في قلب التجربة المظلمة.


قبل خوض تجربة التربية والأمومة، كانت الأمور تبدو هينة، سهلة وبسيطة، كلام الكتب الرائع والقواعد الصارمة والخطوط العريضة والرفيعة والمتعرجة، كل هذا جميل ورائع حتى يأتي الطفل البريء، تنهار كل الكتب وتبدو الأمور مظلمة، تكتشف الأمهات أن الحب ليس بالضرورة مضمونًا، وأن طفلك المختلف يحتاج حبًا غير مشروط، تبذل مجهودًا شاقًا لتقبله وتحبه وترعاه بلا كسر ولا قولبة ولا إرغام، تكتشف الأمهات أن طفلها لن يكون كما ترغب هي وحدها بل سيكون نسيجًا مستقلًا عنها، قد تكون هي الهدوء ويكون هو العاصفة، قد تكون هي الأمل ويكون هو التشاؤم أو العكس، ضربة حظ ورمية نرد لا يعلمها إلا الله، لكننا محظوظون بالحب، وبقدرة قلوبنا على أن تتسع لتشمل ما لا نهاية له من المشاعر.

أسمع آيات الأحقاف "وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ" هذا الولد الذي قال لوالديه أف، وتركهما يستغيثان الله أن ينزل عليهما رحماته وينقذ ولدهما، فأشفق عليهما وأكاد أبكي، جزع الآباء والأمهات على أطفالهم، والطفل مهما كبر فهو في عين أبويه طفل صغير يرونه كأنها الرؤية الأولى في قماطه الأبيض، يظنونه بحاجة للرعاية والسقاء، فيتحسسون موضع قدميه ويقولون "ويلك آمن".

ندعو الله أن يلهمنا الصواب لنحبهم بلا اشتراط، وأن يجيب الأمل في أن يكونوا على قدر الصلاح المستحق للجنة، نسير بجوارهم كصحبة لطيفة، وكمستضيفين لضيوف يغادروننا قريبًا ويستقلون عنا، ويكونون ذواتهم.

يستغيثون بالله أن ينجي الطفل الذي لم يعد طفلًا، أن يسبغ عليه رحماته فينجيه من النار -ليس نار الدنيا الهينة بل نار الآخرة والعياذ بالله- تتذكر الأم كل كوب شاي وكل صحن شوربة، وكل معلقة وضعت شفتيها عليها لتتحسس حراراتها، تتذكر كل ذلك وتتذكر "ولعذاب الآخرة أكبر" ثم تجزع وتقول "ويلك..".

تبدو التربية مغامرة غير محسوبة، مجازفة غير مضمونة إلا بالرجاء في الله، زرع بلا انتظار للحصاد وأرض قد تثمر وقد لا تثمر رغم إحسان الحرث والسقيا والرعاية والحب، تضحيات هائلة وشقاء بلا انتظار الشكر ولا المقابل ولا أن يكونوا نسخًا منا ولا أن يكونوا إلا أنفسهم، شيء أشبه بالتجديف في رمال الصحراء الحارقة، بلا ماء ولا زاد ولا حتى شطآن ولا يصل للمرسى إلا من عرف أنه في صحراء قاحلة تتبدى منها الفتن الواحدة تلو الآخرى.

الأرض التي لم تطرح والشجر الذي لم يثمر، الحصاد الذي لن يحصده الأم والأب لأن الطفل قد كبر ولم يعد كما كان، بل أصبح مسؤولًا عن نفسه، محاسبًا بلا إجبار ولا شيء إلا حق المسلم على المسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا المر الذي يخرج في حلقي رغم أني لم أجرب، والسامع غير الرائي غيرالمجرب، العهود التي لا نعلم إن كانت ستتحقق أم لا أننا سنحبهم كيفما كانوا، وندعو الله أن يلهمنا الصواب لنحبهم بلا اشتراط، وأن يجيب الأمل في أن يكونوا على قدر الصلاح المستحق للجنة، نسير بجوارهم كصحبة لطيفة، وكمستضيفين لضيوف يغادروننا قريبًا ويستقلون عنا، ويكونون ذواتهم، يكونون أنفسهم، أما نحن فنمضي ولا نأخذ إلا دعوة صالحة وأجرا من الله وحده دون سواه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.