شعار قسم مدونات

فن السفر.. "ببلاش إلا ربع"

blogs - مسافر
قبل 10 أعوام فقط، لم أكن أحلم بركوب الطائرة، والأكيد أنني لم أتخيّل أنني سأصل إلى السويد أو الأندلس أو حتى مالطة يوما ما، كُنت أتخيّل هذه الرحلات حِكرًا على "الأغنياء" أو "المجانين" ممن ليست لديهم مُشكلة في الحصول على قرض بنكي من أجل رحلة استجمام عابرة.. لم أكن أتخيّل أن هُناك مجانين في هذا العالم يُسافرون "بلا مال" أصلًا، ومن هؤلاء تعلّمت الكثير! 

في أول أيامي في ألمانيا، وجدت نفسي أشتري كتابًا لأحد هؤلاء وكان عنوانه: "بلا مال.. حتى آخر العالم" – بالألمانية: Ohne Geld bis ans Ende der Welt- وكُنت أظن في الأمر خدعة، حتى بدأت بمُطالعة الكتاب لأكتشف فنًا من فنون السفر لم أعهدها من أحفاد "ابن بطوطة" و"ابن فضلان". فبينما نحن لا نُسافر إلا بالطائرة ولا ننزل إلا في الفنادق الفخمة، وجدت هذا الألماني لا يُفكر بكل هذا، بل ويبتكر كُل الحيل والخدع التي تخطر بالبال ولا تخطر، من أجل أن يُسافر بشكل مجانيّ، فيركب القطار بشكل غير قانوني تارة، ويعمل في سفينة تارة أخرى، كما لا يبالي في الانتظار ساعات تحت الشمس ليجد من يشفق عليه ويأخذه معه دون مال، والأمر نفسه في المبيت وكان الرجل مُتطرّفًا جدًا، لدرجة أنه راح يُحرضني على "الجنون" فتركت الكتاب ولم أعد إليه حتى اليوم!

رغم هذا، أصبتُ بهوس "السفر الرخيص"، وكان أوّل ما بدأتُ به قضاء ساعات على موقع الرحلات باحثًا عن أرخص تذكرة طائرة دُون ملل ولا ضجر، وكُنت أستمتع وأنا أستمع لحكايات من سافروا بتذاكر رخيصة جدًا جدًا كتلك التي لا تكلّف إلا 10 يوروهات، أو أقل بكثير أحيانًا، ومع ذلك طرت فرحًا يوم عثرت على تذكرة بالطائرة من بروكسيل إلى مدينة العقبة الأردنية بحوالي 70 يورو ولم يصدقني أحد حينها مع أن التذكرة ليست رخيصة جدًا في معايير "المُحترفين"!

وصلتُ جزيرة مالطة التي سمعت عنها مرارًا وتكرارًا منذ أيام طفولتي حتى انهمكت فترة من الزمن بلغتها وثقافة أهلها، ولم يؤخر سفري إليها إلا
وصلتُ جزيرة مالطة التي سمعت عنها مرارًا وتكرارًا منذ أيام طفولتي حتى انهمكت فترة من الزمن بلغتها وثقافة أهلها، ولم يؤخر سفري إليها إلا "غلاء التذاكر".

ذات يوم حدّثني صاحبٌ بأنه يسافر إلى السويد من ألمانيا بأقل من 20 يورو، ومنذ ذلك اليوم وأنا أرى كُل تذكرة فوق هذا المبلغ بأنها "غالية" ومع ذلك كان شعورًا رائعًا يوم قررتُ السفر إلى السويد ووجدت تذكرة مثاليّة في توقيتها ولم تكلفني إلا 50 يورو ذهابًا وإيابًا وكانت تُشكل تقدمًا رائعًا من ناحيتي، علمًا بأنني كُنت قد اشتريت تذكرة من مدينة مالقة الأندلسيّة إلى بروكسيل بـ 35 يورو فقط!

الرقم القياسي الشخصي الذي حققته حتى الآن، وهو ما لم أصدقه بنفسي في البداية، كان يوم قررتُ السفر إلى مالطة، فوجدت نفسي أشتري تذكرة سفر ذهاب وإياب بـ 20 يورو فقط، وللأمانة فقد ذهبتُ يومها للمطار وأكاد لا أصدق نفسي من الفرحة بهذه "الغنيمة"، فتذاكر السفر إلى مالطة عادة ما تكون أغلى بكثير، حتى إنني لم أستبعد وجود خطأ في الحجز أو أن تكون الرحلة وهميّة أصلًا، والحمد لله خابت كُل ظنوني والمخاوف، فقد وصلتُ جزيرة مالطة التي سمعت عنها مرارًا وتكرارًا منذ أيام طفولتي حتى انهمكت فترة من الزمن بلغتها وثقافة أهلها، ولم يؤخر سفري إليها إلا "غلاء التذاكر" ولكن بعد هذا كُله: وصلتها بتذكرة طائرة لم تكلفني إلا 10 يورو للذهاب وهذا الثمن أرخص من المبلغ الذي أدفع إذا ما أردت السفر من قريتي في فلسطين إلى القُدس بالحافلة، وفوق هذا لا يكفيني للوصول إلى حيفا!

لا شك أن هذه الغنائم لا تأتِ كل يوم، ولكنها موجودة بلا شك وترصّدها فنٌ بحد ذاته، وهي لا تنحصر في تذاكر الطيران، فمع الوقت وجدتُ أن هناك سفرًا أرخص من هذه الأسفار كلها، ولا يكُلف الـ 20 يورو أحيانًا، مثل السفر مشيًا على الأقدام ولكن لمسافات طويلة وقد جرّبته في فلسطين كما جرّبته في ألمانيا وكان مُجديًا جدًا، وفي هذه الرحلات لا يحتاج المسافر إلا اللياقة البدنيّة التي تُمكنه من المشي لمسافة 30 كيلومترًا، وهي مسألة ليست صعبة جدًا كما أنها ليست سهلة جدًا، ولكنها معقولة وتأخذ المُسافر إلى عوالم أخرى لم يكن يحلم بوصولها لا بالطائرة ولا بالقطار، ففي فلسطين المحتلة هناك "مسار البلاد" الذي يصل طوله إلى حوالي 1000 كم ويتكون من 45 مسارا، كل واحد منها حوالي 30 – 25 كم، يُمكن للمسافر أن يصلها بالمواصلات العامّة، ومن ثم ينطلق مشيًا، أما في أوروبا فإن هذه المسارات أكثر من أن تحصى، وقد قُمت بالعديد من المسارات في محيط مدينة آخن وريفها، وقد وجدت عندهم مسارات تُسمى "المسارات الأوروبيّة" وهي 12 مسارا، يقطع فيها الرحّالة دول أوروبية بأكملها ويسير عبرها آلاف الكيلومترات، ولكن هذه ليس للمبتدئين مثلي!

الأكيد أن هُناك رحلات كلّفتي أكثر بكثير من هذه المبالغ، ولكنني ما زلتُ أؤمن أن الكثير من المُسافرين العرب الذين تكتظ شبكات التواصل بصور رحلاتهم، يُساهمون من حيث لا يعلمون في تشويه مفهوم السفر والترحال في حصره في التسكّع في المُدن والجلوس على موائد "البوفيه المفتوح" والمقاهي الفاخرة في المجتمعات التجاريّة الفخمة التي لا تختلف كثيرًا عن تلك التي في بلادنا، ولا أدري أين لذّة العيش التي تُصاحب العناء والنصب، وأين لّذة الاستكشاف ومُتعة اتساع المدارك والآفاق في سفرٍ، لا يعود المُسافر منه إلا بوابلٍ من الصور، بعد أن عاش رحلته في رحاب "الفيسبوك" و"الواتساب"، هذا غير هوس "السنابشات"!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.