شعار قسم مدونات

القتلة يفوزون

CAIRO, EGYPT - AUGUST 15: Egyptian Military Police soldiers stand guard inside the burnt-out Rabaa al-Adaweya Mosque in Nasr City on August 15, 2013 in Cairo, Egypt. An unknown number of pro-Morsi protesters were killed in Egypt's capital yesterday as Egyptian Security Forces undertook a planned operation to clear Morsi supporters from two sit-in demonstrations in Cairo where they have camped for over one month. Egyptian Police and Army forces entered protest sites in the Nasr City and Giza districts at dawn on August 14, using tear gas, live fire and bulldozers to disperse protesters and destroy the camps. A state of emergency has been declared in Egypt that began yesterday afternoon and will last for one month. (Photo by Ed Giles/Getty Images)
"وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا"
(النساء. 74)

منذ وقعت المذبحة، وأصدقاؤنا من شباب مصر يندبون شهداءهم، يبكونهم ويرثونهم ويأسون لما آلت إليه الدنيا بعدهم، وقد حُقّ والله ذلك لهم، ونعمّا صنعوا وفاءً لأحبابهم، وتعطيرًا لمجالسهم بذكرهم، وبذرف الدموع على أغلى الأرواح، وأنفس المُهج، وأزكى الدماء، ونحن معهم نذكرُ الشهداء، ونعدُّ أنفسنا أولياء كلّ شهيد مظلوم.

غير أنّ كثيرًا من أولياء الدم هؤلاء، يبكون الدم المسفوح على وجهين، الأول: ما سبق من ألم الفراق، وحسرة الفقد، وفجعة الموت، والثاني: أنهم يرون هذه الدماء ذهبت هكذا هدرًا مهدورًا، بلا قيمة تُعرف، ولا ثمن مستحقّ! ولم يعلموا أن قيمة دم الشهيد، هو أنّه دمُ شهيد، وأنّ ثمنه هو موقفُ الحقّ الذي سُفك فيه.

ولا أعني بذلك أجر الشهيد عند ربّه، ولا جزاءه في الآخرة، وإن كنتُ أومن به وأرجوه لكلّ من عرفتُ من الشهداء، بل الذي أعنيه أداء واجبه الذي آمن به، وقد وقف موقفه البطوليّ لا يشترطُ شيئًا حتى يقفه، ولا يرجو منفعةً ولا مصلحةً، وأيُّ مصلحةٍ في المغامرة بالنفس من أجل مبدأ أو رأي! ومنذ متى كان الأبطالُ والمحقون ينتصرون حتمًا!

هُزم عليّ بن أبي طالب، وافترق عليه أصحابه، ثم قُتل بعد ذلك مغدورًا، وخاض الحسينُ معركةً خاسرة، فني فيها شبابُ آل محمّد -صلى الله عليه وسلم- أو كادوا، ودُكّت الكعبة على ابن الزبير بالمنجنيق دكًّا، وانتصر عليه أشدُّ أهل عصره ظُلمًا وإجرامًا، وقبلهم أُحرق المؤمنون عن بكرة أبيهم في الأخدود، فلم تكُن تلك الدماء مهدورةً عند الله، ولا عند أصحابها، إذ بذلوها فيما يؤمنون به.

قتل حافظ الأسد الناس في مجازر مروّعة، ثم فاز ومات آمنًا مطمئنًّا، وورّث لولده البلاد، حتى يقتل بدوره أكثر ممّا قتل أبوه.
قتل حافظ الأسد الناس في مجازر مروّعة، ثم فاز ومات آمنًا مطمئنًّا، وورّث لولده البلاد، حتى يقتل بدوره أكثر ممّا قتل أبوه.

القتلةُ يفوزون، والتاريخُ شاهدٌ ماثل، وقد عرف هذه الحقيقة أجدادُنا قبل مئات السنين، اجتمع أصحابُ إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، الأمير الشجاع الشريف الوسيم، يشاورهم في قتال جيش عيسى بن موسى أحد قادة المنصور، فاقترح عليه أحدهم أن يهجموا على عدوّهم ليلًا فيبيّتوهم (يعني: يقتلوهم ليلًا وهم غافلون)، فرفض ذلك قائلًا: أكرهُ القتل! فقال له أصحابه مستنكرين: تريد الملك وتكرهُ القتل! فأبى أن يغدر بهم، فلمّا ارتاح عدوّه واستعدّ، قاتلوه حتى ظفروا به، فاحتزّ هؤلاء الذين خشي عليهم القتل رأسه، وبعثوا به إلى المنصور! نعم.. القتلة يفوزون، وإن لم يُدرك ذلك الأميرُ النبيل!

لا يموتُ صاحبُ الحقّ من أجل ثمنٍ سياسيّ، ولا انتصارٍ مادّي، وإن كان أهلُ الحقّ أولى بالأثمان السياسية والانتصاراتُ المادّية، وواجب المتحكّم فيهم أن يبذل جهده وُوسعه لتحصيلها، إنما يموتُ دفاعًا عن العدل، ووقفةً في وجه الظلم، وأيًّا كان مردود وقفته تلك نصرًا أو هزيمة، فإنّ دماءه لم تسأل عن النتيجة قبل أن تسيل.

يخلطُ كثيرٌ من الناس بين تقييم الأداء السياسيّ لقيادة الإخوان المسلمين بمصر، وبين المظلومية التي وقعت عليهم وعلى مناصريهم، وجميع من وقف معهم في تلك المظلومية، تمامًا كما يُضيّعُ كثيرٌ منهم الفرق بين خطاب منصة رابعة، وتصريحات فريقٍ ممّن اعتلاها، وبين بطولة معتصميها، وطهارة دماء شهدائها.

القتلة يفوزون كثيرًا، قتل حافظ الأسد الناس في مجازر مروّعة، ثم فاز ومات آمنًا مطمئنًّا، وورّث لولده البلاد، حتى يقتل بدوره أكثر ممّا قتل أبوه، وها هو يفوزُ هو الآخرُ ولا ندري إن كان سيورّث البلاد لحافظ الصّغير! قتل صدّام حسين الناس بكلّ وسيلة، فما فاز عليه المقتولون، ولا انتصف منه المظلومون، إنّما قدرت عليه أمريكا، سيدة القتلة، وقدوة الظلمة، وراعية الإرهاب الأولى. وقُتل في الجزائر مئاتُ الآلاف، ثمّ اصطلح القتلة من كل فريق، ونجا أكثرُهم من مجرّد المساءلة، وتنعّم أكابرُ المجرمين بصنوف النعيم وما زالوا.

دماء شهداء رابعة هي ضمانة المصريين بدفن تركة هذا النظام يوم يتخلصون منه، وهي التي تُعطي الشعب الحقّ يوم يستردُّ سلطته، أن يقول للعالم كله: إن هذا النظام حكم البلاد بالحديد والنار والإبادة الجماعية.
دماء شهداء رابعة هي ضمانة المصريين بدفن تركة هذا النظام يوم يتخلصون منه، وهي التي تُعطي الشعب الحقّ يوم يستردُّ سلطته، أن يقول للعالم كله: إن هذا النظام حكم البلاد بالحديد والنار والإبادة الجماعية.

رغم كلّ ذلك، فإنّ لشهداء رابعة خاصّة، شيءٌ من الانتصار السياسيّ، ومعنىً من الفوز الدنيويّ، إذ بقيت دماؤهم لعنةً تطاردُ القتلة، وتلاحق شرعيّتهم إلى الأبد!  إنّ هذا النظام مهما مضى في تثبيت أركانه، وتوطيد سلطانه، مهزوزُ الشرعيّة جدًّا، ضعيفٌ وقلقٌ ومُحتاجٌ دومًا إلى من يدعمه، ويتستّر عليه، وفوق ذلك فإنّ كلّ خطوةٍ يخطوها، كلّ صفقةٍ يعقدها، كل اتفاق يوقّع عليه، هو رهينٌ به، زائلٌ يوم يزول.

إنّ دماء شهداء رابعة هي ضمانة المصريين بدفن تركة هذا النظام يوم يتخلصون منه، وهي التي تُعطي الشعب الحقّ يوم يستردُّ سلطته، أن يقول للعالم كله: إن هذا النظام حكم البلاد بالحديد والنار والإبادة الجماعية، وإنّ كل ما كان بينكم وبينه عدم، وبدماء الشهداء الذين سقطوا على طريق معارضة هذا النظام، فإنّ تيران وصنافير -مثلًا- مصريّة!

لستُ متفائلًا بشأن مصر، ولا بشأن عالمنا العربيّ إجمالًا، ولستُ ممّن ينتظرُ للدماء ثمنًا أراه في حياتي، لكنني لستُ نادمًا على الصفّ الذي وقفتُ فيه، ولا أرى دم شهيدٍ واحدٍ سقط على طريق الحرية ذهب هدرًا. لم أكن تاجرًا يومًا حتى أحسبها بالآلة الحاسبة، ولا مشجّع كرة قدم أسخطُ على الفريق حين تسوء الإدارة أو يخذلني اللاعبون، بل أنا مع الثورة منتصرة ومهزومة، أردد في قلبي وملء فمي، مع أخ لي ثائر كتب يومًا: "ولم نندم على الكرامة!".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.