شعار قسم مدونات

هل انتقلت الخلافة إلى آل عثمان؟

مدونات - تركيا
تحمل الإجابة عن عنوان المقال الكثير من النزاع بين مؤيدي الحكم العثماني والرافضين له، كما تحمل الانقسام بين كل فريق من الفريقين بداخل نفسه، فهناك مؤيدين لحكم العثمانيين ولكنهم يرون أنهم لم يحصلوا على لقب الخلافة، وهناك مؤيدين مع الإقرار بشرعية حكمهم وتقلدهم للخلافة، كما أن هناك رافضين يرفضون الحكم العثماني كله ولا يعتبرونه إمامة شرعية، وهناك من الرافضين من يراه خلافة مع الجور والظلم كما هو حالة الخلافة الإسلامية كلها من وجهة نظرهم، وهي مسألة هامة بها الكثير من التفصيلات التي بحاجة إلى بسط وشرح واسع مطول أحاول إجماله هنا.

بعد سقوط الدولة العباسية في "بغداد" على يد التتار خرج الخلفاء العباسيين من مسرح التاريخ بشكل كلي، ولم يتبق منهم إلا لقب "الخلفية" بعد انتقاله إلى القاهرة تحت الحكم المملوكي، وكانت الصلاحيات التي يتمتع بها الخليفة العباسي في القاهرة صلاحيات شرفية وكان الحُكم الفعلي في مجريات سياسة الدولة للسلطان المملوكي.

ومع بزوغ نجم العثمانيين وتوسع دولتهم وذياع صيتهم في العالم الإسلامي، اتجهت الأنظار إليهم كمنافس قوي على زعامة الأقطار الإسلامية في الشرق والغرب وكان المماليك ينظرون إليهم كمنافسين لهم، كما تطلع آل عثمان إلى بسط سلطان نفوذهم إلى الأراضي المقدسة في مكة والمدينة، الأمر الذي حدث فعليًا بسقوط الدولة المملوكية بعد دخول السلطان "سليم الأول" القاهرة بعد معركة الريدانية عام 1517؛ لينتقل حكم الشام ومصر والحجاز إلى الدولة العثمانية، ويطرح على إثره سؤال حول مشروعية العثمانيين في نيل لقب ومكانة "الخلافة" بديلًا فعليًا عن سقوطها الذي تم من قرون مضت.

أثيرت مسألة قرشية الخليفة في عهد السلطان والخليفة
أثيرت مسألة قرشية الخليفة في عهد السلطان والخليفة "سليمان القانوني" (1520-1566) فقام أحد رجال الدولة الكبار في عهده وهو الصدر الأعظم -رئيس الوزراء- "لطفي باشا".(سليمان القانون)

ويرى كاتب هذه السطور أن العثمانيين قد حازوا اللقب والمكانة بسيطرتهم على قلب العالم الإسلامي وبإقرار رجال العلم والدولة حينها بشرعيتهم في تولي "الإمامة العظمى" أو الخلافة؛ لتوافر الشروط الشرعية والسياسية لحيازة هذا المنصب، إلا أن الأمر لا يتم بذكر رأي شخصي دون أدلة وحُجج تثبت الأمر من جهة وتَرد من جهة أخرى القائلين بعدم أحقية العثمانيين الحصول على المنصب، وهم يستندون في هذا الأمر على سببين رئيسيين: أولهم كونهم ليسوا عربًا وأن الإمامة لابد أن تكون في نسل عربي قرشي، وثانيهم كونهم لم يدَّعوا اللقب إلا في القرن "الثامن عشر" لأغراض سياسية حينها ولم يظهر على الساحة مرة أخرى إلا في عهد السلطان "عبد الحميد الثاني" مع فكرته السياسية التي تقوم حول مبدأ "الجامعة الإسلامية"، وهما المسألتان اللتان نناقشهما في السطور القادمة.

إمامة القرشي المشروطة
تستند مشروعية حكم الخليفة عند الفقهاء ورجال العلم إلى شرطية تولي شخص "قُرشي" خلافة النبي في سياسية المسلمين، وهو شرط انبنى على "حديث" شهير للنبي عليه الصلاة والسلام يقول فيه: "الأئمة من قريش" وهو حديث صحيح، كما له أحاديث أخرى صحيحة تفيد بأن الإمامة/الخلافة من قريش طالما استطاع الخليفة القرشي أن يقيم الدين مثل حديث: "إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد، إلا كبه الله على وجهه، ما أقاموا الدين"، وهم مجموعة أحاديث اعتمد عليها الفقهاء في القول بإمامة القرشي طالما توافرت له مقومات الحُكم واستطاع إقامة الدين وسياسة الناس به.

أما في امتناع الشروط عدم وجود القُرشي الذي يستطيع أن يقوم بهذه بأعباء الخلافة فلا مانع من تولي "غير القُرشي" بل وغير العربي بالكلية منصب "الخليفة" طالما توافرت فيه الشروط كما ذكروا، مع إقرار شرعية حكم المتغلب بقوة السلاح وهو نقاش فقهي مُطول عُمل به في هذه الأزمان وعليه كانت تسير أمور تداول السلطة بين الخلفاء خاصة عند الانتقال من دولة إلى دولة، فبناء على ما سبق لا مانع شرعي من تولي الأتراك العثمانيين الإمامة العظمى ولا يوجد حينها سواهم يستحق هذا اللقب وهذا التكليف.

وقد أثيرت مسألة قرشية الخليفة في عهد السلطان والخليفة "سليمان القانوني" (1520-1566) فقام أحد رجال الدولة الكبار في عهده وهو الصدر الأعظم -رئيس الوزراء- "لطفي باشا" بوضع رسالة فقهية بالعربية بعنوان "خلاص الأمة في معرفة الأئمة" يناقش فيها مناقشة شرعية أحقية السلاطين العثمانيين بالخلافة ويفند دعاوى من قال بوجوب تعيين خليفة قرشي تحت أي ظرف، وهي رسالة صغيرة مُحققة ومنشورة.

اعتراف العالم الإسلامي بخلافة العثمانيين

تدخل السلطان
تدخل السلطان "عبد المجيد الأول" (1839-1861) بصفته خليفة للمسلمين بناء على طلب من بريطانيا لتهدئة الثورة الهندية التي قامت على الاحتلال البريطاني لشبه الجزيرة الهندية عام 1857.

وعلى المستوى العملي، فقد اعترف العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه -باستثناء السعديين في المغرب- بأحقية العثمانيين بالخلافة وذلك قبل القرن الثامن عشر بأكثر من قرنين من الزمان وبالتالي فهو قبل الإدعاء الذي يقول بأنهم نسبوا اللقب إلى أنفسهم لأول مرة في القرن الثامن عشر خاصة بعد توقيع معاهدة "كوتشوك كاينارجا" بين روسيا والدولة العثمانية عام 1774، فقد سيطرت روسيا على "القِرم" ذات الأغلبية المسلمة، وتطلب التدخل حينها من سلطة "الخلافة" كي يقوم الخليفة العثماني بالتفاوض مع الروس حول حقوق المسلمين في هذه المنطقة التي دان حُكامها بالولاء لسلاطين الدولة مع احتفاظهم بالاستقلال في الحكم والإدارة، ففي بند من بنود المعاهدة تم ذكر السلطان العثماني بصفته «إمام المؤمنين وخليفة الموحدين» وهو أمر كان قد ثَبُت واستقر في اﻷذهان وجرى بناء عليه النظرة إلى الدولة بين عامة المسلمين من داخل حدودها أو خارجها كما سنرى.

ويستند من يستند إلى عدم أحقية انتقال الخلافة إلى العثمانيين إلى رفض الحدث الذي ذُكر في بعض كتُب التواريخ والذي يحدثنا عن انتقال الخليفة العباسي "المتوكل" مع السلطان "سليم الأول" إلى إسطنبول بعد سقوط دولة المماليك بالقاهرة، وتنازل الخليفة في جامع "آيا صوفيا" إلى السلطان سليم عن لقب الخلافة ليصبح سليمًا أول خليفة من خلفاء بني عثمان، وهو رفض صحيح تاريخيًا فلم يُذكر في أي من كُتب التواريخ المعاصرة لدخول السلطان سليم الشام ومصر ولا الكتب التي أتت بعدهم بقرون ذكرًا لحادثة تسليم المتوكل الخلافة إلى سليم، بل ظهرت تلك الرواية لأول مرة في القرن الثامن عشر في كتابات الدبلوماسي الأرمني (D’hosson) الذي عَمِل بالسفارة السويدية في إسطنبول وهو رجل له عمل هام عن تاريخ الدولة العثمانية بعنوان "الصورة العامة للإمبراطورية العثمانية" طبع بالفرنسية في باريس.

وإن كنت أؤيد الحقيقة القائلة باستحداث هذه الرواية في نفس القرن وأن المتوكل أُخذ فعلًا إلى إسطنبول دون وجود مراسم لتسليم الخلافة، إلا أنها لا تطعن في مشروعية الحصول على المنصب، فسواء سلمها المتوكل أو لم يسلمها فإن استلام سليم لها -أو ابنه سليمان كما يرى بعض المؤرخين- أمر يقره الواقع حينها لتوافر شروط القوة في الخليفة الجديد وانتفائها عن الخليفة العباسي، وهي خطوة حازت بها الخلافة قوتها الحقيقية الماضية مع انتقالها إلى العثمانيين.

أما عن أدلة استخدام اللقب فنجد أن غالبية السلاطين العثمانيين قد استخدموا اللقب قبل المعاهدة سالفة الذكر، وقد ذكر لقب "الخليفة" أو "ظل الله في الأرض" في المراسلات الخارجية من عهد سليمان القانوني، كما كان الاعتراف بها من القوى الأوروبية بكون السلطان العثماني هو خليفة المسلمين قبل دعوة السلطان "عبد الحميد الثاني" بفترة طويلة، فقد تدخل السلطان "عبد المجيد الأول" (1839-1861) بصفته خليفة للمسلمين بناء على طلب من بريطانيا لتهدئة الثورة الهندية التي قامت على الاحتلال البريطاني لشبه الجزيرة الهندية عام 1857، كما تمت مراسلة السلطان عبد العزيز الأول (1861- 1876) للتدخل كخليفة للمسلمين في "جزر كومورو" في المحيط الهندي وفي "التركستان الشرقية" عندما طلب قادة مسلمين منه المساعدة ضد الإنجليز والروس، كما نجد أن الإمام "شامل الداغستاني" قد تواصل مع دولة الخلافة العثمانية ونجده يسلم بولاية السلطان والخليفة العثماني عليه، ففي عام 1856 بعد توقيع معاهدة «باريس» للسلام بين روسيا والدولة العثمانية بعد حرب القرم، قال بأنه: "لو طلب السلطان "عبد المجيد" منه أن يقوم بعمل معاهدة سلام بينه وبين روسيا على غرار ما فعله السلطان معهم لما استطاع أن يرفض طلبه".

يذكر العالِم الهندي الكبير
يذكر العالِم الهندي الكبير "شاه ولي الله الدهلوي" سلاطين الدولة في موضعين من كتابه "التفهيمات الإلهية" بأن أول من حصل منهم على لقب "أمير المؤمنين" هو السلطان "سليم الأول".

ومن جوانب الموضوع المهمة نظرة علماء المسلمين من داخل الدولة وخارجها للسلطان العثماني على أنه خليفة، فلدينا كثير من الآثار التي تدل على أن هذه النظرة كانت معروفة ثابتة بين العلماء العرب أو الأعاجم، فنجد في كتب التراجم العربية الحديث عن إسطنبول بأنها "دار الخلافة" وقد ذكر المؤرخين العرب هذه العبارة في كتبهم كثيرًا مثل المحبي في كتابه "خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر"، والمرادي في كتابه "سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر"، والبكري الصديقي في كتبه العديدة، والجبرتي في كتابه الشهير "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، ويوجد حتى الآن مثال لطيف لطبعة من غلاف كتاب «تاريخ راشد» المطبوع في مطبعة "إبراهيم متفرقة" عام 1740 في إسطنبول بدايته كُتب أن هذا الكتاب طُبع في عهد السلطان «محمود خان» «خُلدت خلافته ودام سلطانه».

أما عن خارج حدود الدولة فنجد ذكر واعتراف بالخلافة العثمانية من أصقاع ومسافات شاسعة، فيذكر العالِم الهندي الكبير "شاه ولي الله الدهلوي" (1703-1762) سلاطين الدولة في موضعين من كتابه "التفهيمات الإلهية" بأن أول من حصل منهم على لقب "أمير المؤمنين" هو السلطان "سليم الأول" وكان يُخطب لهم على منابر العرب والشام والحرمين، كما يذكر بخدمتهم للحرمين الشريفين وإمارة موسم الحج والمحامل والقوافل، ويذكر الأديب والشاعر والمؤرخ الهندي المعروف "آزاد البلكرامي" في كتابه "سبحة المرجان في آثار هندوستان" عام 1761 بأن مدينة "كولومبو" الموجودة بـ "جزر سيلان" (سريلانكا حاليًا) كان يتواجد بها قريتان للمسلمين، وكان خطيب الجمعة في هاتين القريتين يدعو لسلطان الهند المغولي ولسلطان الروم (العثماني) كونه خادم الحرمين الشريفين، فما الذي يفسر أمر دعائه لسلطان الدولة العثمانية إن كانوا لا يعتبرونه خليفة للمسلمين؟

وقد قابل صاحب كتاب "تحفة العالم" السيد "أبو طالب موسوي فندرسکی" سائحا قد زار مجموعة
جزر في جنوب شرق آسيا مثل "سوماترا"، و"جاوا" و"ماليزيا" و"إندونسيا"، وذكر له بأن هذه الجزر يقطن غالبها مسلمون وهم يخطبون الجمعة باسم سلطان الروم (الخليفة العثماني) والمسلمون هناك مطلعون على أحوال بلاد الخلافة وذلك في أوائل القرن الثاني عشر الهجري/ أواخر السابع عشر الميلادي.

ونخلص من العرض السريع لكل ما سبق بأن سلاطين الدولة العثمانية قد حازوا منصب الخلافة بشكل شرعي وباعتراف المسلمين حول العالم، وأن منصب الخلافة عندما تم إلغاءه علي يد أتاتورك كان منصبًا معترفًا به من قرون ولم يكن وليد قرن أو قرنين قبل سقوط الدولة وزوال منصب الخليفة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.